رسالة حب إلى الله

جريدة الأهرام
السبت:15من ذي القعدة 1423هـ-18 يناير(كانون ثان)2003م
 
لا أحــد يحاسب صحراء العطش لو توحمت على خيط رفيع من الماء.. لا أحد يحاسب جائعا لو ظل طوال ليله يحلم بسوق الخبز.. لا أحد يحاسب الأولياء والأتقياء والأصفياء إذا ما واصلوا دون توقف ذكر الله.
   إننا نواجه العاب الحياة البهلوانية وأقنعة الناس الورقية وطبول البشر الشيطانية بذكر الله وهذه هي ببساطة الصوفية… سفر في شرايين الإيمان..إفراغ القلوب من سطوة الأحزان وحشوها بالزعفران.
   لقد كنت أتصور الصوفية نوعا من البهدلة الذهنية ((خيش)).. وحياة بالبقشيش عزلة على رصيف عام.. وتمسحا في مقابر رخام.. لحية تنفر من صاحبها.. ونفسا كسولة حتى في الوصول إلى بارئها.. وتقاعدا عقليا مبكرا.. لا يؤمن بوجود مفكر.. انسحابا من الحياة إلى كهوف العزلة.. ومد اليد للحصول على العملة.. كنت أتصورها شعوذة لا تعرف الجدية ولا تحمل المسئولية.. كنت أتصور ذلك حتى وجدت رجلا مؤمنا نشيطا.. أنيقا.. يفكر.. يبدع ..يبتكر.. ينتج..يجتهد.. يدير مشروعا ناجحا لتنمية الصحراء.. ينقل خبرته بسهولة لكل من يطلبها.. تملآ الابتسامة ملامحه.. يفيض مدد السماء من لسانه.. لا يطلق لحيته.. لا يقف بعيدا عما يجرى حوله.. يملك القلوب يسحر العقول وينتمي إلى طريقة صوفية.
  إن الصورة الشائعة عن الصوفى صورة ذهنية خاطئة..ترسم شخصا رث الثياب مهمل للدنيا.. لا يعمل.. لا يتفاعل مع ما حوله.. وهى صورة ظلمت الصوفية وظلمت أنصارها.. وهى في الوقت نفسه تحتاج إلى مراجعه ومرافعة.. خاصة أن في مصر ما لا يقل عن خمسه ملايين صوفي.. ستدهش لو عرفت أن غالبيتهم يحملون شهادات عليا.. وهم خبراء في مجالاتهم محترمون في تعاملاتهم طيبون في حياتهم يتبركون بأهل البيت يؤمنون بأن كل زمان لا يخلو من وجود124الف    وليا يوسعون مساحه الرحمة في زمن سيطرت عليه أخلاق الزحمة.. ولكن.. برغم ذلك كله نتساءل: ما هي الصوفية؟.. هل هي مذهب ديني ؟.. هل لها أساس من العقيدة الإسلامية أم أنها مقتبسة من اصول فارسية وهندية ومجوسية؟.. هل هي رغبة في الفناء أم وسيلة للرجاء؟.
ولو كان الجهل بالشيء هو السبب في تصورنا الخاطىء عنه فإن علينا أن نبدأ بتعريف الصوفية طبقا للقاعدة الشرعية الشهيرة:  (( لو تعارفنا لتألفنا )).. إن هنـاك من يقول: أن الصوفية مشتقة من كلمة صوفيا..  وهى كلمة يونانية تعنى الحكمة.. واقتنع الناس بهذا التعريف.. لكن لماذا نلجأ إلى اليونانية أو اللاتينية ونحن أمة عربية.. لماذا نتعامل مع التعريف على طريقة الولي البعيد سره باتع؟.. وهناك من يقول: أن الصوفية من الصوف دلاله على الزهد والخشونة.. ويزعم المستشرق (( جولد تسيهر )) أن الصوف استخدم أول مرة في الدولة الإسلامية في عهد عبد الملك بن مروان (حكم ما بين684-705 ) وبنى على ذلك أن الصوفيين المسلمين اقتبسوا الصوفية من الزهاد والنساك الذين ينتمون إلى  ديانات أخرى.. واشتهر عنهم لبس الصوف وكأن الصوفية بدأت مع بداية معرفة المسلمين بالصوف.. ولو كان ذلك صحيحا فإن  النبي علية الصلاة والسلام (( كان  يلبس الصوف )) كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها..أما هي فربما ارتدت الفرو
برغم صوفيتها فليست الثياب هي التي تحدد طبيعة الإيمان فالثياب لا تكشف ما في أعماق الإنسان.. فالنار قد تكون وقود من يلبس الخيش والجنة قد تكون من نصيب من يرتدى ثيابة على طريقة سمالتو وبريونى.. اشهر بيوت الأزياء الرجالي في ايطاليا.
وقيل أن الصوفية من الصفة (بضم الصاد وتشديد الفاء)..وأهل الصفة كانوا لا يلبسون إلا الصوف الرخيص..صيفا وشتاء..فكانوا عندما يعرقون تفوح منهم رائحة الضان.. وعندما كان المطر يبللهم لم تكن رائحتهم تطاق.. وكانت تقترب من رائحة الشاه والصفة هي الظل.. أو المظلة.. وأهل الصفة ينسبون إلى صفة مسجد الرسول في المدينة.. وكانوا من فقراء المهاجرين يأوون إليها وينامون ويأكلون ويصلون تحتها.. ويعيشون على الصدقات ويحفظون القرآن ويبكون إذا تلي عليهم ويقال أن عددهم كان 300 شخص وقد كانت ثيابهم قصيرة ترتفع عن الركبة.. فإذا ركع احدهم قبض ثوبه بيده مخافة أن تبدو عورته.. وفى البرد كانوا يستترون بعضهم ببعض من العرى.. وقد نسبت الصوفية إليهم في فترة من الفترات ولكن.. زماننا غير زمانهم وأيامنا غير أيامهم.. وتعرفنا يبتعد كثيرا عنهم أنهم طريقة صوفية لم تعد قائمة.. فلا يجوز تعريف الأصل بالفرع.. ولا يجوز أن ننسب الأب إلى الابن والبحر إلى السمك والسماء إلى الطير.
ويمكن القول أن كلمة صوفي ليست اسما وإنما فعل ماض مبنى للمجهول.. كـأن نقول (( صوفى الرجل )) كما نقول (( عوفى المريض )) أو (( وري الميت )) إن اصل كلمة الصوفية من الصفاء والمصافاة وصفى.. صافى.. صوفى.. لكن كيف يصاف الإنسان؟.. يقول سبحانه وتعالى (( يا مريم أن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ))  ويقول سبحانه وتعالى : (( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد منهم سابق بالخيرات )) إن التصفية هي أولى مراحل الوصول إلى الصفاء الذي ينم عن المصافاة.. والمصافاة مكاشفة.. والمكاشفة إخراج ما في باطنك وإعلانه كن مكشوفا.. بح بسرك.. لقد اصطفى الله مريم ثم طهرها ثم اصطفاها مرة أخرى ..اى كاشفها فالمصافاة هي المكاشفة.. والصوفية والمصافاة.. وهو التعريف الذي نتصوره مقنعا ودائما.. على أن الأهم من التعريف ما وراءه.. جوهره.
   بماذا يسمى رجل شهد الشهادتين ويؤدى الصلاة ويخرج الزكاة ويصوم رمضان ويحج بيت الله الحرام ؟ سمه ما شئت.. لكن التسمية لن تخرج عن كونه مؤمنا.. مسلما.. فالمفروض أن يقرأ المؤمن كتاب الله ولو مرة واحدة وينفذ ما فيه من تعليمات طوال حياته.. كل مرة يصلى فيها كأنه قرأ قوله سبحانه وتعالى: (( وأقيموا الصلاة )).. هذا أفضل من أن يقرأ ذلك ألف مرة ولا يصلى ..وأفضل له أن يصوم رمضان من أن يقرأ ألف مرة قوله سبحانه وتعالى :(( فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) فالإسلام دين عمل يقول سبحانه وتعالى : (( وقل    اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )) ولكن.. هذا هو إيمان العوام.. إيمان تنفيذ الأمر الالهى دونما نظر إلى الفائدة التي تعود من تنفيذه.. إذا سألت شخصا عاديا لماذا تصوم ؟ أجاب : لان الله كتب علينا الصيام.. فهو لا يعبأ بغير تنفيذ الأمر الإلهى ..لا يعبأ بما يقوله الفلاسفة وعلماء النفس.. (( الصيام يهذب الطبع )) فلو كان للصيام اثر غير ذلك لصام أيضا أو لا يعبأ بما يقوله الأطباء (( أن الصيام يصلح الدورة الدموية )) فلو كان للصيام اثر غير ذلك لصام أيضا..فالشخص العادي لا يلتفت إلى ما يجرى له فهو ينفذ ما قاله الله سبحانه وتعالى دون أن يعرف ما سيجنى من ورائه.
  وإذا كان المؤمنون مأمورين بتنفيذ الفروض فان هنالك عبادة فارقة بين طائفتين يختلفان عليها ، هذه العبادة هي (( ذكر الله )) البعض يقول: إن كل عبادة من العبادات التي نؤديها فيها ذكر الله.. ولكن الصوفية يقولون: إن ذلك صحيح ولكن هنالك عبادة أمرنا بها الله قائمة بذاتها هي: الذكر.. (( المضيعون )) يعتقدون أن العبادات المعروفة تتضمن الذكر و(( المدققون )) (( المحققون)) – لأنهم لا يتركون أمرا لله أو لرسوله إلا ونفذوه- يرون أن الذكر عبادة منفصلة.. لا تكرار فيها.. ولا استنساخ.
   الذكر في الرأي الأول عبادة موجودة ضمنا في كل العبادات.. وهو قول صحيح ، مثل الماء الموجود في كل طعام وشراب.. لكن الله سبحانه وتعالي يقول: (( فكلوا واشربوا)).. فلماذا يدعونا للشراب مستقلا إذا كان الماء الذي في الأطعمة يكفي ، لابد أن للماء وظيفة مستقلة بمفرده ودون اندماجه في شي أخر.. والله سبحانه وتعالي يأمرنا بالصلاة والصوم والزكاة والحج ورحمة اليتيم وإفشاء السلام.. وذكر الله.. لا تغني واحدة عن أخري كل الأوامر الإلهية يجب أن تنفذ.. هذه نقطة الخلاف بين الصوفية وغيرهم..
  لكن ما يلفت نظر الصوفية أن المضيعين لهذا الأمر الإلهي يتهمون المصريين علي تأديته بالخروج عن الدين.. وليس العكس.. بدلا من أن يقلد المقصر المؤدي ويوفي الذكر يريد أن يقلل من عزمه في أدائه.. كأنه يريد ان يقول: ضيعوا كما نضيع.. وكان مفروض أن يقول الصوفية: أكملوا كما نكمل.. وفوا كما نوفي.. علي أن الصوفية درجوا الا يتدخلوا بين الله وعباده.. فإذا ما رأوا مقصرا نصحوه بالحكمة والموعظة الحسنة.. فان استجاب فبها.. وإن رفض يقولون: الحمد الله الذي عافانا مما أبتلي به كثيرا من خلقه.
  يقول الدكتور عبد المنعم الحنفي: إن الصوفى هو كل من صفا من البلايا وخلص من جملة العطايا.. هو كل ما قضي به الحق حتى يرضي الحق عنه.. ولكن ليس كل من يحمل اللقب يستحقه فليس كل إنسان وطنيا.. وليس كل شرطي أمينا.. إن الحفاظ علي اللقب أو الصفة يحتاج إلي مجاهدة مع النفس لتصفيتها   مما هي فيه من سواد يحيط بها ويغطي فضائلها لكن ما يثير الدهشة أن الناس أخذوا صورة خاطئة وعمموها وطبعوها ووزعوها وصدقوها.. أخذوا صورة الرجل الكسول.. رث الثياب.. قليل العلم.. المتسول.. الذي يفترش الأرض ويلتحف السماء.. ويجد سعادته في الموالد والطرقات.. واستقرت هذه الصورة في الأذهان.. شاعت.. سيطرت.. وأصبح من الصعب تغييرها بل رفض الناس غيرها.. رفضوا الصورة الحقيقية فعندما يرون رجلا نظيف الثياب يحافظ علي مظهره ونظافته ويعرف بصوفيته ينتقدونه يقولون له: لست صوفيا ما هكذا ينبغي أن يكون الصوفي.. لقد استقر  المعني الخطأ والغريب..وأصبح هو القاعدة.. قاعدة قعدوا عليها.. وفي الوقت نفسه.. يريدون أن يقعدوا الآخرون مثلهم.
  كان الصوفى الأعظم أبوالحسن الشاذلي مشهورا بأنه يركب أعلي الجياد.. ويلبس أنظف الثياب.. ويأكل أطيب الطعام.. وذات يوم التقي برجل يلبس خيشا خشنا.. لم يكن الرجل يعرف ذلك القطب فقال له:(( إن ما أراك عليه من نظافة ثياب وحسن المنظر لا يدل علي الصوفية )).. يقصد.. ليس فيه من ما اشتهر عن الصوفية في شئ ، واستطرد الرجل: (( لو كنت صوفيا للبست مثلما ألبس ولزهدت في متع الحياة ، كما أزهد.. فقال أبوالحسن الشاذلي: (( يا هذا  إن الزهد أن تملك فتعف.. أن لا تملك ما في يدك.. يا هذا كم ملكت من جناح بعوضة      حتى تزهد فيه فالدنيا كلها إن ملكتها لا تساوي جناح بعوضة ولو كانت تساوي جناح بعوضة لما سقي الله الكافرفيها شربة ماء.. يا هذا أن منظر العبد يدل علي غني سيده وهيئتي هذه تدل علي أن ربي غني كثير الفضل والله يحب أن يري أثر نعمته علي عبده.. أما ثوبك هذا فإنه يتهم سيدك بالفقر.. وكأن من خلقك لا يستطيع كسوتك.. يا هذا عرفت معني الزهد فالزم.. فلو ملكت ما زهدت.. ولكن.. لا ينبغي لان تزهد فيما  لآ  تملك..       إ ن التسامح لا يكون عن ضعف وإنما عن قوة والترفع لا يكون عن فقر وإنما عن ثراء.
  وللصوفية سبع طبقات: الطالبون والمريدون والسالكون والسائرون والطائرون والواصلون وهؤلاء ستة.. والسبعة هي القطب الذي قلبه علي قلب رسول الله.. وهو وارث العلم الذي خصه به الله ورسوله دون غيره.. وللصوفية مراتب ودرجات أعلاها الواصلون الكاملون ثم السالكون طريق الكمال.. والواصلون نوعان.. الأول هم المشايخ.. والثاني هم جماعة يكفون بعد الوصول عن الرجوع إلي الخلق وهدايتهم فأصبحوا غرقي في بحر الخلق وذابوا في بحر الفناء فلم يصلوا إلي شاطئ البقاء.. والسالكون ايضا نوعان .. نوع طلب وجه الله ونوع يطلب الجنة والآخرة.
  علي أنه مهما تكن درجات الصوفية وطبقاتها فهي قائمة علي ذكر الله سبحانه وتعالي والصلاة علي رسوله الكريم وحب آل البيت رضوان الله عليهم الذي أكد الفروض.. يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه شعرا: (( يا آل بيت رسول الله حبكم .. فرض من الله في القرآن أنزله )).. وفي بيت أخر يضيف: يكفيكم من عظيم الفخر أنكم من لم يصل عليكم لا صلاة له هذه هي الصوفية الأمام الشافعي الذي يرد علي كل من يتهمون الصوفية بالبدعة.. فهو في بيت ثالث يستطرد: لو كان حبي آل أحمد بدعة .. فإني بتلك البدعة مكتف.
  إن حب آل البيت يربط المؤمنين بقواعد الدين ولا يخرجهم عنه فأمة لا يربط بينها الحب لا شك سيسيطر عليها الكره.. والبغض.. وستظل متنافرة.. متناثرة.. متناحرة.. متباعدة.. تنتظر العدو ليضربها بسهولة.. ومن حيث لا تتوقع ولا تحتسب.
  إذن الصوفية تقوم علي ذكر الله والصلاة علي رسوله وحب آل البيت.. وكلها فرائض إضافية مكلف بها المؤمن حتى وإن لم يسم صوفيا.. الصوفية محبة.. والمحبة إتباع.. والحب لمن يحب مطيع.. والإتباع ليس عبادة.. والمحبة ليست عبادة لكنها الأساس الذي يقوم عليه الإيمان لقوله تعالي:(( من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه )) ولا جدال أن الجهل في تعريف الصوفية هو سر الصراع والخلاف بين الصوفيين وغيرهم ممن يرفضونهم ويرمونهم ما يفعلون بالبدعة.. أما تعدد الطرق الصوفية فهو تعدد في وسائل التعبير عن الحب.. تعدد في أساليب التدريس والتعليم والتعبير وهو أمر لصالح الصوفية وليس عليها.. ولو كانت هنالك صورة فردية خاطئة عن الصوفية فإن ذلك لا ينقص منها شيئا فعدم وجود صفة حميدة في مسلم ليس معناه غير موجودة في الإسلام.. فاللصوص والمرتشون والمختلسون قد يكونون مسلمين.. لكن هل هذا هو الإسلام.
  إن الصوفية كتاب ضخم.. لم نقرأ منه سوي السطر الأول.. وطريق طويل لم نقطع منه سوى الخطوة الأولي.. وخيمة هواء عرضها السماوات والأرض لم نستنشق منها سوي قطرات الندي     إستنشقناها في فجر الحب والإيمان