البدعة والخدعة

جريدة الأهرام
السبت : غرة ذي القعدة  1423هـ – 4 يناير (كانون يناير) 2003م
 
  عندما تحسست طريق مشاعري ناحية الكتابة  إعتبرت اللغة نوعا من العزف علي بيانو نستمتع به لذاته.. فمارست رقابة موسيقية شديدة علي تشابك الحروف والكلمات لتحافظ علي الوزن والرنين.. لكن فيما بعد تخلصت من هذه الأفكار.. وكسرت حواجز الحدود بين ما أكتب وما ينفع الناس.. فالجمال لا يطلب لذاته وإنما يطلب لنفعه.  ,و إلا صرنا عبدة أوثان منحوتة من كلمات.
  إن الأفكار الجامدة الشائعة التي لا يريد أن يتجاوزها أصحابها هي أفكار مصابة بفقر دم.. أفكار مختوم عليها بالشمع الأحمر.. هي أفكار من خشب جاف.. يأكلها الناس علي أنها شهد.. وعسل.. ثم يتعجبون عندما تخرج من ا فواههم الشظايا والمسامير.     إن من يبلع النار لن يشعر إلا باللهب.
  وقد شعر المسلمون باللهب طوال العام الذي مضي، عندما وجدنا هجوما شرسا مهينا علي المسلمين دون تفرقة بين مسلم معتدل ومسلم متطرف.. بين مسلم خاطئ ومسلم يمشي علي الصراط المستقيم.. بين مسلم يتبع تنظيم القاعدة ومسلم يقود أرفع مؤسسات الدولية.. فعندما تأتي العاصفة فإنها لا تفرق بين حبات الرمل وأوراق الشجر.. بل إن هذا الهجوم وصل في تشدده وتجاوزه إلي حد المساس بشخص الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام.. لقد بدأ  هجوم القس الأمريكي القريب من دوائر البيت الأبيض بيلى جرهام، بعد أحداث سبتمبر، وهو صاحب وصف الإسلام بـ (( ديانة الشر)).. وقبل أن ينتهي عام 2002، نشر رسام الكاريكاتير الأمريكي المعروف رسما ساخرا، يمثل النبي محمد عليه الصلاة والسلام وهو يقود سيارة عليها صاروخ نووي.. وكتب فوقه:(( ما الذي يقوده محمد؟)).
  وقد سببت الحملة علي رسول الله غضبا عنيفا كان نارا في قلب أكثر من مليار مسلم، وشنت الصحف العربية والإسلامية هجوما مضادا وتدخلت المنظمات والحكومات الإسلامية وأجبرت البعض علي التراجع والاعتذار.. لكنها لم تملك القدرة ولا القوة علي اقتلاع هذه الحملة من جذورها.. لسبب بسيط هو أن جذور هذه الحملة زرعت في تربتنا وترعرعت فيها.. إن من الممكن أن نثور وننفعل ونهاجم ونقاتل ونصرخ في وجه الذين يوجهون الإهانات للإسلام ولرسوله.. لكن.. ذلك بالقطع لا يكفي.. فهذه مجرد قشور.. بثور.. طفح جلدي.. أما الدواء فهو فينا نحن.. فقد قد منا      صورة غير حقيقية عن الإسلام.. ولم نتوقف طوال ربع قرن مضي لمراجعتها والتخلص منها أو تجميلها   أو تحسينها.. فلماذا نغضب عندما يعاملنا الأخر ون بالصورة التي رسمها البعض وصدرها إلي أربعة أنحاء الدنيا؟.
  إن صورة المسلم في ذهن غير المنصفين، هي صورة الإرهابي الذي يفجر القنابل ويقتل الأبرياء ويطعن من يختلف معه في الرأي.. صورة الشاب القادم من عصور غابرة، الذي قتل الدكتور فرج فودة بعد أن سحق أنصار الجماعات المتطرفة في مناظرة كانت حديث الناس جرت في معرض الكتاب قبل شهور من  إغتياله.. صورة الشاب المتشنج الذي طعن نجيب محفوظ في رقبته عقابا له علي رواية لم يقرأها ذلك الشاب.. صورة الشاب المهزوز الذي لا يعرف التصويب علي ضحاياه.. فيقتل الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب السابق خطأ، وكان يقصد وزير الداخلية في ذلك الوقت اللواء عبد الحليم موسي..
  وكانت هنالك صورة أخري تنافس تلك الصورة.. صورة المسلم الثري المتسيب أخلاقيا علي طريقة شهريار.. أكبر بلطجي عرفه التاريخ.. الذي يضجع علي عشر وسائد.. وحوله جوار ومحظيات.. وخلفه مسرور السياف.. في انتظار تعليماته بالذبح.. والقتل دون مبرر.. وقد أمسك بيده كتاب(( رجوع الشيخ إلي صباه)).. الدستور الدائم لهذا الطراز من البشر.. علي تلك البقعة من الكرة الأرضية، إنها صورة شاعت وسادت وفرضت نفسها علي الدراما السينمائية والتلفزيونية الغربية.. كما أنها أصبحت منجما من السخرية في الملاهي الليلية.. ولمؤلفي النكات في دور النشر الأوربية.. وكذلك كانت محور استفزاز لمعظم جماعات الحقوق المدنية التي تدافع عن كرامة المرأة وكيانها.. فقد وجدت في مثل هذه الصورة الشائعة إهانة التي يشاع أن الرجل المسلم يستغلها ويستنزف ثرواتها الجسدية والروحية.. ثم يلقي بها في عرض الطريق.. ويشاع أنه يؤمن بأن القوة في الكسر والضرب والجر وليس في الحنان والمعروف والرحمة.. وهي شروط شرعية إسلامية إجبارية لمعاملة الرجل للمرأة.. ولو فهمت الدنيا عكس ذلك.. لكن البعض منا كانوا المسئولين عن هذه الصورة.. وعن ترويجها..
  إن أسماء الله الحسني تشمل الرحمة.. العدل.. الكرم.. السلام..النور..الإيمان..الرفعة.. المغفرة.. فلا يجوز أن نضيق ما وسعه الله.. وأن نعقد ما بسطه.. وأن نخجل مما أباحه.. فالحلال بين والحرام بين.. لا يجوز أن يضع أحد نفسه في موقع الوساطة بين الناس والسماء، وهو ما أباح لهم الفتوى بغير روية.. بعيدا عن أحكام الله..
  إن شئون الدين أسهل وأبسط وأرحم مما يعرفه الناس.. ويعتقد الناس.. ويتصوره الناس.. وسأضرب مثلا علي ذلك.. كنت عائدا من الساحل الشمالي، عندما توقفت لتأدية الصلاة في زاوية صغيرة علي الطريق الصحراوي.. كان الشيخ الإمام يصرخ في وجه شاب أمامه ويتهمه بالكفر.. ويتوعده بجهنم.. وبئس المصير.. كان الشاب الذي عرفت أنه يدرس الفلسفة الإسلامية قد تجرأ وسأله(( هل هنالك وحي بعد رسول الله؟)).. لكن.. ما أن سمع الشيخ السؤال حتى نفرت عروقه.. وانفلت غضبه.. وسارع باستدعاء النار لتحرق الشاب..وبرغم أنني عادة لا أتورط في مثل هذه الأمور، إلا أنني تطوعت بالإجابة قائلا:(( نعم هنالك وحي بعد رسول الله)).. وقبل أن يرسلني الشيخ أنا أيضا إلي النار طلبت منه أن يهدأ وأن يصبر وأن يفكر ولا يكتفي بما يعرف.
  إن الوحي هو سر بين ملق ومتلق لقوله سبحانه وتعالي:(( رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح(الوحي) من أمره علي من يشاء من عباده)).. الملقي هنا هو الموحي.. والمتلقي هو الموحي إليه.. وعلي هذه القاعدة يكون الوحي أنواعا: هناك   وحي إلهام كقوله تعالي:(( وأوحي ربك إلي النحل أن   إتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون)).. وهو وحي جاء من الله مباشرة دون جبريل عليه السلام أو أي ملك أخر.. وحي تلقاه كائن غير بشري.. ويمكن أن يكون الكائن بشرا مثلنا وليس رسولا.. كما في قوله تعالي:(( وأوحينا إلي أم موسي أن أرضعيه)).. ويمكن أن يكون الموحي إليه جمادا.. ففي يوم القيامة سيوحي الله للأرض بما عليها أن تفعل.. كما في قوله تعالي:(( يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحي لها )).. وهذه الأنواع من الوحي لم تنقطع.. فلا يزال النحل يفعل ما أوحي الله به.. وهنالك وحي يسمي(( وحي منام)) وهو الرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن أو يراها غيره له.. الرؤيا هنا لا تخرج عن كونها نوعا من الوحي لأن النائم في موضع المتلقي.
   لكن الوحي الذي  إنقطع هو وحي الرسالة الذي خص به الله رسله وأنبياءه.. فلا وحي رسالة بعد رسول الله وأشرف خلقه.. بل هنالك وحيا غريبا لا يدل علي الصلاح والتقوى  نراه في قوله تعالي:(( يوحي بعضهم إلي بعض زخرف القول غرورا )).. وهو وحي التدبير السيئ.. وحي إبليس لمشركى مكة ليقتلوا النبي ضربة رجل واحد ويفرقوا دمه بين القبائل.. ووحي التدبير.. وهو وسواس بين فاسد وفاسد.. بين فاسق وفاسق..بين الشيطان والبشر.. علي أن هنالك – كذلك – وحيا من بشر إلي بشر.. يقول سبحانه وتعالي عن زكريا:(( فخرج علي قومه من المحراب فأوحي إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا )).. لقد كان زكريا وهو في المحراب في موضع الموحي إليه من الله.. كان في موضع المتلقي..لكنه لما خرج إلي قومه حتى أصبح في موضع الملقي والموحي.
  وخلاصة القول: إن ما انقطع من وحي هو فقط وحي الرسالة.. أما وحي الإلهام والمنام فهما مستمران إلي يوم تقوم الساعة.. وقد أفرطت في الشرح الديني لهذه القضية للتدليل علي تسرع البعض في الإجابة والفتوى.. والتكفير والتحريم والتفكير.. إن هذا التسرع هو الذي جعلنا لا نتعمق في معاني الدين الصحيحة والبسيطة والسهلة والمناسبة لكل ما حولنا.. هذا التسرع هو الذي أسهم في رسم وتلوين وتجسيد تلك الصورة الخاطئة عن الدين، والتي شاعت وراجت وفرضت نفسها علي السياسات والمؤامرات الخارجية التي ترسم وتدبر لنا.
  لقد كان باب رسول الله صلي الله عليه وسلم مفتوحا للكفار، يناقشهم ويناقشونه، فلماذا نسينا هذه الفضيلة؟ إن حجة العلماء دائما هي أنهم يخشون علي الدين من العامة فيميلون إلي التشدد.. وهي خشية تعطيهم مبررا لعدم إضافة أية معلومات أو اجتهادات يملكونها.. يقولون إن العامة لن يفهموها.. لن يستوعبوها.. وبهذا التبرير يضعون حاجزا عريضا بينهم وبين الناس.. مع أن المفروض عليهم رفع مستوي العامة.. إن العالم يجب أن يضيف شيئا.. أو يقول لا أدري.. إذا لم يفض الله عليه بشئ يقول: لا أعلم.. ومن قال لا أعلم أو لا أعرف فقد أفتى.
  لقد شهدت السنوات الأخيرة عادة غير إسلامية، هي رمي البعض للعامة بالشرك والكفر والبدعة.. وهي تهم لا يسهل رمي الناس بها.. وربما كان الوصف الأدق هو الجهل.. جهل العامة.. وهذه مسئولية العلماء.. فلو كان الإنسان جاهلا.. ويريد أن يتعلم فقد برؤا من هذه الصفة.. ولو كان جاهلا ولا يريد أن يتعلم ويدعي أنه يعلم وينكر علي من يعلم أنه يعلم، فهو الجاهل قياسا علي أبي جهل.. فقد كان أبو جهل لا يعلم ويدعي أنه يعلم، ولا يريد أن يفتح أذنيه ليعرف، ويمنع غيره من العلم، ويتطاول علي رسول الله الذي يعرف ويعلم.. لكن حتى وصف الجهل لا يجوز أن نطلقه بسهولة علي العامة.. لأن الله أعفي من لا يعلم.. وأعفي من لا يستطيع.. ولم يؤاخذ عبده إلا إذا اجتمع    لديه العلم والاستطاعة.. أو المعرفة والقدرة. أما من لا يعلم ويريد أن يعلم فيسمي طالب علم.. وهنا بالضبط يأتي دور العلماء.. إن الذين لا يعلمون هم(( خامة)) العلماء ودون هذه الخامة لا صنعة ولا وظيفة ولا دور.. تماما مثل قطعة الحديد التي هي خامة الحداد.. يشكلها كما يشاء.. وحسب موهبته وخبرته.. ومثل قطعة الخشب هي خامة النجار يصنع منها ما يشاء.. حسب ما منحه الله من قدرة علي ذلك.. لم نر حدادا استغني عن قطعة حديد لأنها معوجة.. ولم نر نجارا استغني عن قطعة خشب لأنها ليست مستوية.. علي العكس.. يتحمس الصانع الماهر لكل ما يصعب علي غيره.. إن مهارته تبرز في هذه الحالة أكثر وبراعته تتألق أكثر.. العامة للعلماء      كالخامات في يد الصناع.. وجودهم علي ما هو عليه من جهل.. مثل وجود حديد بلا حداد أو خشب بلا نجار دلالة علي ضعف الصنعة وقلة الخبرة وصعوبة المهمة علي أصحابها.. وجود جهلآء مسألة ليست في مصلحة العلماء.. ودليل علي أن دورهم ليس كافيا.. ومهمتهم ليست كاملة.. ورسالتهم ليست مقنعة.
  وربما كانت الكلمة التي أثارت الكثير من الجدل حولها، هي كلمة البدعة..  إنها مثل فرس جامح يصعب السيطرة عليه.. وهي كلمة تفتح أبواب الجدل والشجار بين كثيرين، وتجعلهم في حالة نفور دائم.. فكل من أراد تحريم شئ وصفه بالبدعة.. دون أن نتوقف لتعريف البدعة.. إن تعريف البدعة هي إطلاق ما قيده الله ورسوله.. أو تقييد ما أطلقه الله ورسوله.. كل ما ينطبق عليه هذا التعريف نعتبره بدعة.. فنتجنبه ونرفضه.. ونستريح.
  إن العبادات مقيدة لا يجوز إطلاقها.. مثلا.. والصدقة مطلقة لا يجوز تقييدها.. مثلا هذه هي نتيجة القاعدة التي نقيس عليها فننجو من تهمة البدعة..
  إن إعادة النظر في مثل هذه الأمور أصبحت مسألة حياة أو موت.. مسألة دخول لعصر يرفضنا.. أو خروج منه إلي الشتات والتيه
 
ولا حول ولا قوة إلا بالله