قصة عرش الله

الفجر العدد 163
28/7/2008

 ما هو عرش الله ؟ .. هل هو مثل عروش الملوك ؟ .. كيف يستوي عليه ؟ .. هل يستوي عليه كما نتمدد على مقاعدنا ؟ .. ولو كان عرش الله في السماء فكيف يقـول سبحـانه وتعــالى : [ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْـمَآءِ ] (7 هود) ؟.
عندما سئُل مفسرون قدامى : ما معنى قوله سبحانه وتعالى :  [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ]  (5 طه) ؟ قال : ” كاستوائي على كرسي هذا ” ومد قدميه .. منتهى الخطأ .. فلو قبلنا بهذا المعنى لعرش الله نكون حددناه وصغرناه وصورناه .. حددناه في مكان معين .. وصغرناه حتى تشابه مع الأرائك والكراسي .. وصورناه بأنه جالس على كرسي .
في القرآن كلمات تأخذ معنى خاص حسب السياق التي توضع فيه .. لا تملك نفس المعنى في كل الحالات .. مثل كلمة الناس مثلاً .. إن كلمة الناس مجرده تعنى كل البشر مهما كانت ديانتهم وثقافتهم وجنسياتهم لكنها في القرآن تتلون بمن حولها .
يقول سبحانه وتعالى : [ وللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ] (97آل عمران) .. الناس هنا لا يقصد بهم سوى المسلمين الذين عليهم حج البيت.. خاصةً أن الآية تضيف : [وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ] .. وقد استغل البعض كلمة الناس هنا ليقول إن من حق غير المسلمين الحج .. دون أن يستوعب تغير المعنى .. بل أكثر من ذلك لا يقصد كل المسلمين بل يقصد المستوفين منهم لشروط الحج وهى أن يكون المسلم قادراً وبالغاً وعاقلاً .. فلو فقد المسلم شرطاً من هذه الشروط يخرج من الناس المقصودين في الآية .
ويقول سبحانه وتعالى : [ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ] (199 البقرة) .. أي أفيضوا من عرفات .. أي زيدوا منه .. فكأن الناس هنا يقصد بهم الذين سبق لهم أن صعدوا إلى عرفات في عام سابق أو في نفس العام .
ويقول سبحانه وتعالى: [ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ ] (14 آل عمران) فإنه يقصد بكلمة الناس هنا : الرجال .. وعندما يقول سبحانه وتعالى : [ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامَنُواْ  كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ ] (13 البقرة)  فإنه يقصد بكلمة الناس هنا : المؤمنون.
وكلمة العرش مثل كلمة الناس تأخذ معناً مختلفاً باختلاف موقعها .. فالعرش قد يقصد به الكرسي .. كما نفهم من قصة بلقيس وسيدنا سليمان .. [ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ] (42 النمل) .. [ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا ] (41 النمل) .. [ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا ] (38النمل) .. والعرش قد يقصد به سقف البيت .. وقد يقصد به العمل في خلايا النحل .. [ وَمِـمَّـا يَعْرِشُونَ ] (68 النحل).
معاني كثيرة لكلمة العرش فلماذا لا نقبل إلا بمعنى الكرسي ؟ .. السبب أن هناك من قديم التفسير من قال ذلك واستمر معنا .. أولهم قال هذا فثبت عند آخرهم .. والمعتاد عند المفسرين كالمعتاد عند الموظفين .. أول توقيع هو الذي يحرك الورقة ثم يوقع الثاني على توقيع الأول ويوقع الثالث على توقيع الثاني .. الأول هو الذي يحدد ما فهم الأخير فلو أخطأ يستمر الخطأ .. ولو راجع أحد ما قال الأول فإنه يُتَهم بما لا يطيق .. فمن الذي يجرؤ على مراجعة القرطبي وابن كثير مثلاً ؟ .
لقد جعلوا للمفسرين قداسه حتى أن مراجعة كلامهم يعد خروجاً عن المألوف .. إننا لا نقول إن ما جاء منهم خطأ وإنما نقول إنه ربما كانت هناك معانٍ أخرى وإلا ما كان هناك مبرر لوجود أكثر من مفسر .
عرش الله ليس كعرش بلقيس واستواؤه على العرش كاستوائنا على مقاعدنا خطأ غير مقبول .. أما ما المقصود بالاستواء فلا نستطيع معرفته إلا إذا عرفنا معنى كلمة الرحمن .. الرحمن الذي استوى على العرش .   الرحمن أسم صفه ومنه الرحمانيه والرحيم أسم صفه ومنه الرحيميه .. الرحمانيه تمزج بين الرحمه والعذاب .. والرحيميه تعنى رحمه خالصه .. كلمة الرحمن أسم الله .. فهو سبحانه وتعالى رحمه وعذاب .. مثل الدواء مر وشفاء .. أما الرحيم فمثل كوب من الماء البارد في صحراء من العطش .  وأسماء الصفات الإلهية في مركز انطلاق تجليها أو في موضع فياض الجبروت تبدو وكأنها متضادة .. الخافض والرافع .. المعز والمذل .. المحي والمميت .. مثلاً .. فبعض هذه الأسماء جمالي : فيه رحمة الماء البارد في الحر .. المانح والمعز والمحيي والوهاب والعليم .. مثلاً .. والبعض الآخر جلالي يصعب على الإنسان تحمله .. المنتقم والجبار والمذل والقهار .. مثلاً .. وحياض الجبروت إما جمالية أو جلالية .. فلابد من اسم صفه يسيطر عليهما معاًً ويجمع بينهما معاً .. هنا نجد الرحمن الذي يجمع بين الرحمة والعذاب .. بين الأسماء الجمالية والأسماء الجلالية .
مثل قرص خلية النحل .. فيها حياه لا تنتهي ولابد من ملكه لها تسيطر وتحكم هي الملكة التي لها عرش في الخلية .. ” عرشت له ” .. وأسم الرحمن يسيطر على العرش كما تسيطر الملكة على خلية النحل .. فلو كانت الأسماء مثل النحل فإن الرحمن هو الملكة .. ولو كانت الأسماء تنقسم بين الجمالي والجلالي فإن الاسم الذي يجمع بينهما هو أسم الرحمن ويعرف بالاسم الكمالي الذي يجمع بين الجلال والجمال .. هو سيد العرش .
لو كان أسم الرحمن جمالياً فلن تكون له السيادة على الأسماء الجلالية ولو كان جلالياً فلن تكون له سيطرة على الأسماء الجمالية .. لابد أن يكون الرحمن مهيمناً ومسيطراً على كل أسماء الصفات الإلهية ويجلس على عرشها .. حاكماً .
والعرش ليس هناك ما نعرف مكاناً للجلوس عليه .. وإنما مفهوم للسيطرة .. للهيمنة .. فلو أن حاكماً اُنتخب لرئاسة دوله فهل من الضروري أن يكون له عرش حتى يهيمن ويسيطر ؟ .. ولو لم يكن لملك عرش فهل لا يكون ملكاً ؟ ..  هل لا تكون سطوه وقوه ؟ .. ولو ترك ملك كرسي العرش وجلس على الأرض فهل يفقد صلاحيته ؟ .. ليس من الضروري أن يكون الكرسي موجوداً ليكون الملك ملكاً .. ولو كان ذلك يحدث مع البشر فما بالنا بالله .. إنَّ استوى تعنى هيمن وسيطر وتحكم ولا تعنى استوى وتمدد .   
الرحمن على العرش استوى .. تعنى أن الله سيطر وهيمن على العرش بكل صفاته الجمالية والجلالية ليكون أسم الرحمن كمالياً .. ليكون ذا الجلال والإكرام .  ما ضمه أسم الرحمن جرى تفسيره في الأسماء الأخرى لله سبحانه وتعالى .. فقد جمع الرحمن ما بين الجلال والجمال .. وما في الرحمن من جلال فُسر في الأسماء الجلالية وما فيه من جمال فُسر في الأسماء الجمالية
ونأتي إلى قوله سبحانه وتعالى : [ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْـمَآءِ ] (7 هود) .. لنقول في المقصود بالماء ليس البحار والمحيطات وإنما المقصود بها الروح .. فقد أنزل علينا من السماء ماء فأحيا الأرض بعد موتها .. فالأرض هى الجسد والماء هو الروح .. ويقول سبحانه وتعالى : [وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ ] (45 النور) .. [ وَجَعَلْنَا مِنَ الْـمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ] (30 الأنبياء)  فلا يكون الشئ حياً إلا إذا كان به ماء .. الماء هو الروح . ومن ثم فإن عرشه على الماء هيمنته على الروح.
نعود ونقول في تفسير هذا ! موضوع العرش أي كل كلمه في القرآن تأخذ معناً مختلفاً حسب سياقها . وأن كلمة العرش لا يقصد بها مكاناً للجلوس وإنما يقصد بها القوة والهيمنة والسيطرة .. ولو كان بعض أسماء الله جلالياً يعنى العذاب وبعضها الآخر جمالياً يعنى الرحمه فإن إسم الرحمن الذي يجمع بين الرحمه والعذاب هو أسم الله الذى يسيطر على تجلى صفاته المذكوره في أسمائه . هو أسم كمالى يسيطر على كل ما هو جمالى وجلالى . ولو كنا قد توصلنا إلى أن الماء يعنى الروح فإن عرش الله على الماء تعنى سيطرته على الروح

ولا حول ولا قوة إلا بالله