عصمة الأنبياء بالميلاد وعصمة الأوليـاء بالاكتساب

الفجر العدد 170
15/9/2008

النبي معصومٌ من الخطأ .. والعصمة مثل الحصانة .. يمكن رفعها .. ومعناها أن النبي لا يخطئ .. فهو معصوم منه .. لكنه .. غير معصوم من الله .. وإلا كان الله لا يقدر عليه .. لا يقدر أن يشعره بالجوع أو العطش أو يميته و يمرضه .. فالله قادر على اختراق هذه العصمة .. حتى يذكره بأنه لا يزال عبداً له .. ولو بدرجة نبى .
يقول سبحانه وتعالى : [ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ] (67 المائدة)  .. ومعناها أن لا أحد من الناس يقدر عليه .. لكن .. ذلك فى الوقت نفسه لا يعنى أن الله لا يقدر عليه .. فلا شئ يعجز الله عنه .. لا شئ أقوى من الله .. والنبي لا يزال شيئاً .. كل خلق الله شئ .. والله على كل شئ قدير .
 إن النبي هو أول خلق الله .. وقد استغل بعض الناس ذلك ليقولوا : إنه ليس شيئاً فقد خُلِقَ قبل الأشياء .. فرد عليهم الراسخون فى العلم .. إنه أول شئ .. وطالما هو مخلوق إذن فهو شئ .. والله على كل شئٍ قدير .
وفى الشعر الصوفى نقرأ ما يفسر ذلك : قالوا للنبى كنت شيئاً وآدمُ لم يكن شيئاَ .. وحويت الأسرار بالنشر والطى ( جملة وتفصيلاً ) .. وقديماً تقاسمت قسمة الفيء ( الغنائم ) .. لك ذاتُ العلوم فى عالم الغيب .. ومنها لآدم الأسماءُ .
وذات العلوم هى كلمة لا إله إلا الله لقوله سبحانه وتعالى للنبى : [ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَآ إِلَهَ إِلَّا اللهُ ] (19 محمد) .. وذات العلوم تعنى صاحبة العلوم .. قياساً على قوله سبحانه وتعالى : [ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ] (13 القمر) .. سفينة نوح المكونة من ألواح و مسامير .. و قياساً على “أسماء بنت أبى بكر ذات النطاقين” .. أى صاحبة الحبلين .. أو الحزامين .. فذات الشئ أى صاحبة الشئ .
لكن .. حتى لو كان للنبى ذات العلوم فهو عبد .. وحتى لو كان أول خلق الله فهو شئ .. والله على كل شئٍ قدير .. الله قدير عليه .. وعلى اختراق عصمته .. فإذا اخترق الله عصمته فلا حساب عليه .. لأنه مثل قلم فى يد القدرة الإلهية .. إذا أخطأ لا يُحَاسب وإنما يُحَاسب الكاتب به .. و كالسيارة التى ترتكب شيئاً .. لا تُحَاسب و إنما يُحَاسب من يقودها .. لذلك فكل ما تحت هذا النوع من العصمة أفعاله على الله .. لا يُحَاسب على خيرها و لا على شرها .. و لو وصل الأمر إلى حد القتل .. كما فعل سيدنا موسى بالرجل الذى صرعه .. وكما فعل سينا الخضر بالغلام الذى قتله .
إن أفعال الأنبياء هى بيد الله لأنهم معصومون من صفات البشر و أول عصمة عند الأنبياء هى عصمتهم من احتياجهم لباقى خلق الله .. الله أغناهم .. هم أغنياء بالله .. وفقراء إليه .. وما ينطبق على الأنبياء ينطبق على الأولياء .. غير أن هذه الصفة .. صفة العصمة يتغير اسمها عند الأولياء فتُسمى الحفظ أو الضمان .
ويولد الأنبياء بالعصمة لكن الأولياء يكتسبونها .. و من هنا يكون الضمان عصمة مكتسبة .. و العصمة ضمان فطرى .. و ما ينطبق على الأولياء ينطبق على الصحابة .. فقد بدئوا حياتهم في الجاهلية .. و منهم من كان يعبد الأصنام .. و منهم من كان يتقرب من الأوثان .. و منهم من دفن ابنة له حية .. لكنهم بعد الإسلام أصبحوا مبشرين بالجنة .. و من يبشر بالجنة لا يقع في الخطأ .. مثل الذي ينجح في الامتحان يظل ناجحاً و لو أخطأ فيما بعد في إجابة سؤال .. فقد انتهى الامتحان .. إن الصحابة والأولياء يصبحون على ذمة الآخرة وهم في الدنيا .. ولا حساب لهم في الآخرة .. ويصبحون أداة في يد القدرة لا يُثاب على شئ ولا يعاقب على شئ .
نعود إلى العصمة النبوية .. إن النبي المعصوم من الخطأ لن يحاسبه الله على شئ فعله .. لكن .. هل يعنى ذلك أن النبي يُخطئ.. يقول سبحانه وتعالى : [ يَآ أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ] (1 التحريم) .. ثم بعدها يقول سبحانه وتعالى : [ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]  .. فلو فعل غير النبي ما فعل فهو خطأ .. أما لو فعله النبي فهو مشيئة الله كي يخترق عصمة النبي ويدلل لنا على عبوديته حتى لا يذهب البعض بعيداً ويفكر في عبادة النبي ويعرف أن الله وحده هو من يُعبد .
يقول سبحانه وتعالى : [ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِىٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً] (86الإسراء) .. والمعنى الموجه للنبي من الله : إنك معصومٌ بى لكنك لست معصوماً منى .. فليتذكر الناس إنك عبدي .. أنت أعظم و أول خلقي .. لكنك خلقي .
ويقول سبحانه وتعالى : [ وَلَوْلَآ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ] (74الإسراء) .. ويقول سبحانه وتعالى : [ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ { الشريان الموصل للقلب } [ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ] (44-47 الحاقة) .. والمقصود .. إنه عبد الله .. لو كذب عليه ضيعه .. ويقدر على محاسبته .. لكن .. كون أن الله لا يفعل ذلك فهو حر .. الله قادر .. ولو لم يُعَاقِب .
يقول البُصيرى عن الرسول شعراً : ” وغايةُ العلمِ فيه أنه بشرٌ .. وأنه خيرَ خلق الله كُلهمِ ” .. هو معصوم بالله و مصدر عصمته هو الله و لكن لا عاصم من أمر الله إلا من رحم .. هو محفوظ بالله .. مؤيد بالله .. مرسل من الله .. شفعه الله وقبل شفاعته .. وعلمه الله ما لم يكن يعلم .. وأدبه الله فأحسن تأديبه .. و كل مدح في الصنعة عائد إلى الصانع

ولا حول ولا قوة إلا بالله