الرضا عن الله

الفجر العدد الثالث
18 /6/2005

الكلمه لؤلؤه طيبه تحتاج إلى غواص في أعماق بحار اللغة كي يستخرجها . . الكلمه فرسه جامحة تحتاج إلى خيال متمكن كي يلجمها . . الكلمه سكه وعره تحتاج إلى خبير في اقتفاء الأثر كي لا يتوه . . و نتوه معه.
هذه هي الكلمه البشرية التي نكتبها و نقرأها . . و في كثير من الأحيان لا نفهمها . . فما بالنا بالكلمة الإلهية . . كلمه تأتى من السماء من عند الله . . إنها تحتاج إلى ذخيرة لغويه وطاقه روحيه وثقافة دينيه كي نستوعبها . . ونقدر على تفسيرها.
لقد توقفت عند النص القرآني : [ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ ] (8 البينة). وتساءلت : إن من السهل استيعاب جملة : [ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ ] . . لكن . . كيف يرضوا عنه؟ . . كيف نرضى عن الله ؟ . . وصدمني السؤال . . وحملته إلى أهل الله . . وسمعت . . وفهمت . . وشعرت بنور الله.
إن الله إذا رضي عن إنسان أدخله الجنة . . ويسر له الدنيا . . وصرف عنه السوء. . وشفاه من مرضه . . ووسع عليه رزقه . . وسخر له القلوب . . ورزقه من حيث لا يحتسب . . ومنحه ما يرضيه . . ويسر له القيام به . . وتقبل منه عمله . . وضاعف له الأجر . . وأعطاه بغير حساب . . أو كما قال الشاعر : ( إذا رضي المحبوب صح لك الوصل ) .
هذا هو تفسير : [رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ ] . . فما هو تفسير [ وَرَضُواْ عَنْهُ ] ؟.
التفسير له مداخل كثيرة . . لكنه في النهاية يتلخص في جمله واحده : ” الرضا بقضاء الله ” . . أن يعتبر أن الله سبحانه وتعالى ما قضى أمراً وهو مرغم عليه . . وغير تابع لإرادة غيره . . هنا يرضى بالقضاء . . ويصبر على البلاء و الصبر على البلاء قد يكون مراً وقد يكون حلواً وقد يكون عشقاً.
الصبر المر هو أن يصبر الإنسان لقلة حيلته على ما أصابه . . ” حاعمل أيه ” ؟ . . ” آدى الله وآدى حكمته ” . . ” ما باليد حيله ” . . والصبر في هذه الحالة يتفجر مرارة في حلقه . . لكنه . . يمسك لسانه عن الخطأ والتبرم والتمرد . . فلا يلطم خداً . . ولا يشق جيباً . . ولا يدعوا بدعوة الجاهلية . . بل ينتظر على صبره أجرا أو بشرى . . يقول سبحانه و تعالى : [ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوٓاْ إِنَّا للهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ] (156،155 البقرة) . . هذا النوع الأول من الصبر. . الصبر المر على البلاء.
وإذا اجتمع الناس ضد ذلك الشخص . . كل الناس . . فإنه يلجأ إلى قول الله تعالى : [ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوٓءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَ اللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ] (174،173 آل عمران) . .  هذا هو النوع الثاني من الصبر . . ويسمى صبر الرضاء . . وهو يشبه النوع الأول . . غير أنه خال من المرارة في الحلق . . بل معه التسليم بأن يقول : أنا لا أريد تغيير القضاء . . ولا أعانى من صعوبة تقبله . . بل وأشعر براحه في صدري . . ولذة الإذعان له . . لقضاء الله . . واثقاً أن الخيرة فيما يختاره الله.
غير أن النوع الثالث من الصبر يسمى صبر الراضين عن الله . . وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة يفرحون بها لأنها اختبار محبوبهم سبحانه و تعالى . . واختبار محبوبهم رحمه . . ولاشك أن في تلك المصيبة ما لا يعلمون ولا ينتظرون . . خيراً من وراء ذلك . . بل ويعتبرون أن الخير في المصيبة نفسها . . هؤلاء هم الذين يرضون عن الله . . كما يقولون بالعامية : ” إفتكار الله لنا رحمه ” . . أى تذكرنا الله سبحانه وتعالى وذكرنا بهذا الابتلاء.
والابتلاء عند أهل هذه الدرجة له أكثر من زاوية: الزاوية الأولى: أن الابتلاء قد يكون للانتقام . . وهذا النوع من البلاء لا ينزله الله على المؤمنين . . لكنه ينزله على أعدائه والكافرين به . . وهو بلاء لا يعطل العقوبة في الآخرة . . يقول سبحانه وتعالى : [ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِي الْأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ] (114البقرة،41المائدة) . . وقوله تعالى : [ فَاْنتَقَمْنَا مِنْهُمْ ] (136الأعراف،79الحجر،25الزخرف) . . وهذا يسمى بلاء الانتقام.
والزاوية الثانية : أن البلاء ينزله الله على المؤمنين لمحو سيئاتهم كما قال النبي ^ في الحديث الشريف الذي ورد في شعب الايمان – الجزء (7) ، ص (167) :
9869 – أخبرنا أبو سعيد أنا أبو عبد الله نا أبو بكر بن أبي الدنيا نا أحمد بن إبراهيم نا شعيب بن حرب نا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر نا عبد الملك بن عمير قال قال أبو الدرداء : ( حمى ليلة كفارة سنة ) .
. . وهو ما يقوله العامة عند زيارة المريض . . يقول له ” كفاره ” . . أى أن الله ابتلاه بما جرى له كي يمحو عنه سيئة . . وهو خير.
والزاوية الثالثة من الابتلاء ننظر إليها من ناحية رفع الدرجة . . ويسمى البلاء في هذه الحاله بلاء رفع الدرجه . . وهو بلاء يصاب به خواص المؤمنين . . أى كبار الصالحين . . لأن الله يبتليهم لا لينتقم منهم ولا ليمحو عنهم سيئه – فهم أهل حسنات وطاعه وقرب – ولكن ليرفع بهذا البلاء درجاتهم عنده.
ولنا العبره فيما حدث مع سيدنا يوسف وأخيه بنيامين عليهما السلام يوم أن وضع سيدنا يوسف بإذن الله صواع الملك ( سقاية الملك ) فى رحل ( حموله ) أخيه ثم نادى مناد يعلن ضياع السقايه ثم راحوا يفتشون من كان موجوداً وبالذات أخو سيدنا يوسف . . وفى النهايه إستخرج سيدنا يوسف السقايه بيده من رحل سيدنا بنيامين . . وفى هذا فضيحه حسب ما يفسره الناس . . فضيحه بنيامين الذى ظهر أمام الناس و كأنه سارق و لص . . وهو لم يسرق ولم يقرب السقايه . . والملك ويوسف يعرفان ذلك . . لكن . . هذا بلاء أبتلى به بنيامين . . والحكمه منه هو رفع درجته عند الله لقوله تعالى : [ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ] (70 يوسف).. إلى قوله سبحانه و تعالى : [ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ ] (76 يوسف) . . إلى قوله : [ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْـمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّنْ نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ] (76 يوسف) . . فبنيامين لم يبتل إنتقاما ولا محوا لسيئه وإنما أبتلى رفعة لدرجه.
وبقيت الزاويه الأخيره للإبتلاء . . وهى تنظر إلى نوع غريب جداً لا يبتلى به الكفار ولا يبتلى به أهل السيئات من المؤمنين ولا يبتلى به الذين خلوا من السيئات وهم أهل الدرجات وإنما يبتلى به خاصه الأنبياء ويسمى إبتلاء المحبه . . فما حدث مع رسول الله ^ يوم الطائف لم يكن إنتقاماً ( حاشا لله ) ولم يكن لمحو سيئه  ( حاشا لرسول الله ) ولم يكن رفعا لدرجه ( فلا توجد درجة أعلى من درجه سيدنا محمد حتى يرفع إليها ) وإنما يسمى هذا النوع إبتلاء المحبه . . بمعنى إذا أحب الله عبداً إبتلاه . . قال تعالى : [ هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً ] (11الأحزاب) . . وقال تعالى : [حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّـهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا ] (110 يوسف) .
هكذا . . يفهم أهل الرضا عن الله إبتلاء الله لهم ولغيرهم فهم على أى حال يرضون.. ولكن هناك فرق بينهم وبين من يرضى طوعاً ومن يرضى كرهاً . . فالصبر عندهم ليس مراً وإنما يستمتعون بقضاء الله ويشعرون بخصوصيتهم عند الله إذا إبتلاهم بما لم يبتل به غيرهم لأنه سبحانه وتعالى أعطاهم من الدعم ما لم يعطه لغيرهم ،
وكما ورد فى مسند أحمد بن حنبل – الجزء (3) ، ص (128-129)
1555 – حدثنا إسماعيل -يعنى ابن إبراهيم- أخبرنا هشام الدَّسْتُوائي عن عاصم بن بَهْدَلَة عن مصعب بن سعد قال قال سعد : يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال ( الأنبياء ثم الأمثلُ فالأمثلُ حتى يبتلى العبد على قدر دينه ذاك فإن كان صلب الدين ابتلى على قدر ذاك وقال مرة أشتَدَّ بلاؤُه وإن كان في دينه رقه ابتلى على قدر ذاك وقال مرة على حسب دينه قال فما تبرح البلايا عن العبد حتى يمشى في الأرض يعنى وما إن عليه من خطيئة قال أبي وقال مرة عن سعد قال قلتُ يا رسول الله ) . . وكما قيل على قدر أهل العزم تأتى العزائم وتأتى على قدر الكرام تأتى المكارم

و لا حول و لا قوة إلا بالله