إبليس طاووس الملائكه

الفجر العدد 106
16/6/‏2007

عظمة القرآن تقاس بقدرته على الدهشه . . والدهشه لا تكون بالإستسلام للتفسير السائد . . المتوارث . . أحياناً . . وهو تفسير يكتسب مع الوقت والتكرار صفة القانون السرمدى . . ولكن . . بتخطيه . . والتمرد عليه . . بتفسير لا يكون إنتظار ما هو منتظر . . وإنما إنتظار ما لا يُنتظر.
وربما كانت قصة آدم والملائكه وإبليس من القصص التى تحتاج لتلك الدهشه فى تفسيرها . . دهشه تتجاوز ما نعرف . . وما نردد . . وما نكرر.
لقد أمر الله الملائكه أن يسجدوا لآدم فى أكثر من سوره فى القرآن . . فى سـوره (طه116) : [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَآئِكَةِ اسْجُدُواْ لِأَدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبْلِيسَ أَبَىٰ ] . . وفى ســورة (البقره34) نقرأ: [ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَآئِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوٓا إِلَّآ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ] . . وفى سورة (الإسراء61) نقرأ أيضاً : [ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَآئِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّآ إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُدُ لِـمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ] . . وفى سورة (الكـهف50) نقرأ كذلك : [ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَآئِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوٓا إِلَّآ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ  ]
يتكرر الأمر الإلهى للملائكه بالسجود لآدم . . وتتكرر جملة[إِلَّآ إِبْلِيسَ ] . . ثم تكون إضافه هنا أو هناك . . فهو مره يأبى . . ومره يستكبر . . ومره يفسق عن أمر ربه . . وهو مره يعترض على السجود لمخلوق من طين . . فمن هو إبليس؟ . . ولماذا لم يسمع كلام ربه ؟ . . وهل خلقه الله بشفره تجعله يقبل ويعترض ؟ .
إن إبليس ليس ملاكاً . . خلقه الله من نار . . مثل الجن . . لكنه من كثرة العباده أصبح ملاكاً . . بل طاووس الملائكه . . وقد كان بين الملائكه وهم يتلقون أمر السجود لآدم . . وهو ليس منهم . . فلماذا تمرد على أمر لم يصدره الله إليه فضاع بين الأقدام ؟ .
لو عرفنا كيف سجد الملائكه لعرفنا لماذا لم يسجد إبليس . . إن سجود الملائكه تلقائى مثل إنجذاب زهرة عباد الشمس للشمس . . فلو كان من بين سيقان عباد الشمس عود ذره فلا يتحرك فى إتجاه الشمس . . ولولم يتحرك فى إتجاه الشمس فهو لم يخطىء . . إن إبليس كان وسط الملائكه مثل عود الذره وسط حقل من عباد الشمس وهو فى حالتنا الملائكه.
الملائكه مثل محطات الإذاعه . . كل محطه تستقبل تردداً واحداً . . فلو إستقبلت ذلك التردد نسمع صوتها . . تعمل . . تبث . . كل ملاك مثل محطة إذاعه له موجه مبرمج عليها وهى أسم معين من أسماء الله الحسنى . . لو سمعه إنتبه . . وإستجاب . . كل ملاك له إسم إلهى لو  سمعه تجلى به . . فقد خلق من نور هذا الإسم . . وهو لا يعرف غيره . . هناك ملاك للرحمن . . وملاك للرحيم . . وملاك للحى . . وملاك للقدوس . . لو سمع كل منهم الإسم الذى خلق منه سجد.
وعلّم الله آدم أسماء الملائكه . . أسماؤها الإلهيه . . أو الأسماء التى خرجت منها الملائكه . . يقول سبحانه وتعالى فى سورة البقره : [ وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْـمَلَآئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَؤُلَآءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ] (30 البقرة) . . فكـان ردهم : [ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ ] (32 البقرة) . . فكل واحد منهم لا يعلم من أمر نفسه سوى إسمه النورانى الذى خلق منه . . فطلب من آدم بعد أن علمه هذه الأسماء أن ينبئهم بها . . أن يخبرهم بالأسماء التى يتعرفون بها على أنفسهم ليسجدوا إلى الله . . فكان كلما نطق بإسم سجد الملك المخلوق منه . . وهكذا حتى سجدوا جميعاً . . والحقيقة أنهم لم يسجدوا لآدم وإنما سجدوا لله فى إتجاه آدم . . فآدم كان مجرد جهه جغرافيه . . آدم قبله وليس معبوداً.
لكن . . إبليس لم يسجد . . وعندما سأله الله عن ما منعه من السجود بعد أن تلقى أمره . . كان جوابه : [ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ] (12الاعراف،76ص) . . وهنا نلاحظ أن الملائكه سجدوا بالتجلى الإلهى . . أما إبليس وهو ليس منهم فكان عليه أن يسجد بالأمر الإلهى . . ونحن البشر سجدنا أيضاً بالأمر الإلهى وليس بالتجلى . . وهذا ما يعنى أن الإنسان أفضل من الملائكه . . فسجود الملائكه لا إجتهاد فيه ولا طاعه فيه . . سجود مثل إنجذاب الحديد للمغناطيس . . لا مفر منه . . الإنسان أفضل من الملائكه لأنه إستجاب للأمر الإلهى . . دون أن يكون مبرمجاً على تنفيذه مثل الملائكه . . فكل من الملائكه مبرمج على وظيفه محدده.. السجود . . التعذيب . . أو غيرهما.
لكن . . لو كان الملائكه مبرمجين على وظيفه واحده لا يعرفون غيرها فكيف قالوا لله سبحانه وتعالى تعليقاً على خلق آدم : [ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ] (30 البقرة) . . كيف عرفت الملائكه أن ذرية آدم سوف تفسد فيها وتسفك الدماء ؟. . بعض العلماء قالوا إن الملائكه رأوا فى أنفسهم الأفضليه فعرضوا على الله أن يكون خليفته منهم . . وحيث الإختيار هنا [ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ] . . لكنهم عندما عرفوا أفضلية آدم عليهم بالعلم الذى علمه الله له سجدوا وإعترفوا قائلين: [ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ] .
والحقيقه أن الملائكه سألوا سؤالاً إستفهامياً . . وليس سؤالاً إستنكارياً . . سألوا: [ أَتَجْعَلُ فِيهَا] . . ولم يقولوا ” لا تجعل فيها ” . . فمن أين عرفوا بفساد ذرية آدم وسفكهم للدماء ؟ . . قال بعض العلماء : إن الملائكه تحدثوا عن سابق خبره . . تحدثوا عن بشر خُلِقوا قبل آدم وأفسدوا وسفكوا الدماء فمحاهم الله.
لم يكن هناك خلق قبل آدم وذريته . . والملائكه عرفت بما سيحدث بالغيب . . والغيب أنواع كما نعلم . . غيب الشهاده وهو غيب يعرفه العامه .. وغيب الإراده ويعرفه الملائكه بإذن الله .. وغيب الإيمان ويعلمه الصالحون من البشر.. والغيب المحمدى وهو قدر رسول الله . . والغيب المطلق وهو ما يتعلق بالله . . فكأن الملائكه عرفوا بما فى الغيب من الله.
أما إبليس فكان عنده علم يقينى فحجبه الله عنه فعماه . . يقول شاعر صوفى :
لو رأى الحق ما أبى من سجود    . .   عنه عين اليقين أخفت سناها ( نورها)
وقالوا إن الله قذف فى قلب إبليس أن واحداً من المأمورين بالسجود لم يسجد فأصبح عند إبليس علم أكبر بهذا الأمر . . واحد لم يسجد . . فأراد أن يراه . . فإذا به فى النهايه هو هذا الواحد الذى لم يسجد

ولا حول ولا قوة إلا بالله