العباده – الإتباع – الإقتداء – التأسى

مجلة التصوف الإسلامى
عدد رقم ( 305 ) يونيو2004

[ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ]

(59النساء)

” فرحة السالك بالوصول و الواصل بالمثول و الماثل بالقبول فى حضرة العدول جوامع الأصول “.
السلام عليكم مولانا الإمام و عليكم السلام
قلت: التقيت ببعض الناس و رأوا فى يدى مسبحه فظنوا أنى صوفى فسألنى أحدهم هل طاعة المريد للشيخ واجبه أم مستحبه أو مندوبه؟
فقلت له : أنا لا أعرف الفرق بين الألفاظ الثلاثه .

فقال : اليس لك مرجع يجيبك على هذا السؤال ؟
قلت : أجل عندى مرجع المراجع شيخ الشيوخ صاحب السماحه و أنا على موعد قريب مع سماحته إن شاء الله . ثم ثارت فى رأسى ثائرة الأسئله حول هذا المعنى فشطح بى الخيال حتى رأيتنى أقول هل هذه الطاعه عباده بمعنى هل المريد يعبد الشيخ لأنه يطيعه ولا طاعه إلا لله ؟
فلما رأى سماحته إستطرادى إستوقفنى و قال : يا بنى ليست كل طاعه عباده فالطاعه تكون عباده إذا كانت لمعبود و تكون إتباعا إذا كانت لمتبوع و تكون إقتداء إذا كانت لقدوه و تكون تأسيا إذا كانت لأسوه .
قلت لقد زدتنى حيره زادك الله فضلا و قد تعودت من سماحتكم فصل الخطاب و نطق الصواب .
قال سماحته : أنظر إلى قول الله تعالى : [ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ] فقوله [ أَطِيعُواْ الله ] هو عباده لأن الله معبود و المعبود هو الذى يكافيء من أطاعه و يؤاخذ من عصاه و من طلاقة قدرته أنه قد يعفو و لا يحاسب مخطأ وهذا شأنه و تجب طاعته حتى إذا لم يبين العله مما فرض و هذه الطاعه واجبه بمعنى الفريضه .
أما قوله تعالى : [وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ] فإن الرسول ليس معبوداً حتى تكون طاعته عباده و لكنه مبلغ صادق تجب طاعته و طاعته هنا تسمى إتباع لأنه متبوع . والرسول يؤخذ منه و لا يرد عليه فإذا نقل عن المعبود لا يحق له أن يعترض أو يستدرك أو يستوضح إلا إذا تفضل عليه الحق وجلى بعض المبهمات ، و على من يتبع التسليم بالمتبوع لقوله تعالى : [ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُـحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّـمَّـا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ] (65 النساء) و قد جمع الله فى آيه أخرى بين التسليم لله و التسليم للرسول قال تعالى: [وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ ( تابع ) وَلَا مُؤْمِنَةٍ ( تابعه ) إِذَا قَضَى اللهُ ( معبود ) وَرَسُولُهُ ( مبلغ أو متبوع) أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ] (36الأحزاب)
قلت : لا أفهم .
قال سماحته : تعودنا منك ذلك .
قلت : أغرتنى سعة الصدر و كثرة الصبر و أطمعنى حلمكم و علمكم و أنا لا أطلب مستحيلاً لعلمى بأن إيصال المعنى الى قاصر عقلى هو عليك هين و لديك بين فعاملنى بالحكمه و القول اللين .
قال سماحته : أعرف أنك تفهم بالمثال .
قلت : و يضرب الله الأمثال .
قال سماحته : إن الرسول الكريم ^ قال فى شأن الحج ( خذوا عنى مناسككم ) (1)
فإتبعه المسلمون تقليدآ و إن جهلوا العله من الإحرام و التلبيه و الطواف و السعى والحلق والتقصير و رمى الجمار حتى أن سيدنا عمر بن الخطاب ( رضى الله عنه ) لم يشأ أن يسأل رسول الله ^ عن العله من تقبيل الحجر ثم قال سماحته : أفهمت ؟
قلت : أوشكت .
قال سماحته : إن الرسول ^ فى شأن الصلاه قال ( صلوا كما رأيتمونى أصلى ) (2)
فمن كان يؤمن به و يتبعه حق إتباعه لا يحق له أن يوقف أداء الصلاه على فهم العله من تكبيرة الإحرام من قيام و رفع اليدين و الركوع و الرفع منه و السجود و الجلوس منه و تكرار ذلك والإسرار و الإعلان فى الصلاه و التسليم هل فهمت ؟
قلت : أكاد .
قال سماحته : أكاد أرى فى عينيك راحة المستدل و سكون المستوثق فقد زال عنك الإضطراب الذى بدا عليك أول اللقاء .
قلت : أن للعلم سكينه يجعل فى النفس طمأنينه فزدنى زادك الله من فضله .
قال سماحته : أما قوله تعالى : [وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ] الذين هم غير معبودين و غير متبوعين .
قلت : فمن يكونوا إذاً ؟
قال سماحته : هؤلاء هم القدوه يقتدى بهم .
قلت : ما الفرق ؟
قال سماحته : و لا تعجل على ما لست تدرى فإنك سوف تدرى بالتأنى .
قلت : يا مولانا الجهول عجول و العليم حليم .
قال سماحته : إن أولى الأمر من أطاعهم لا يسمى عابدا لهم و لا تابعا لهم فالمعبود يؤخذ عنه ولا يرد عليه و المتبوع يؤخذ منه و لا يرد عليه أما المقتدى به فإنه يؤخذ منه و يرد عليه . أما سمعت قول الإمام مالك ( رضى الله عنه ) كل منا يؤخذ منه و يرد عليه إلا صاحب هذه الروضه فإنه يؤخذ منه و لا يرد عليه .
قلت : لقد فهمت و لكنى أخاف من النسيان فهلا و ثقت لى بمثال ؟
قال سماحته : على قولك ( ويضرب الله الأمثال ) .
قال سماحته : إنك عندما تصلى خلف إمام هل تطيع الإمام ؟
قلت : نعم .
قال سماحته : هل تعبده ؟
قلت : لا . لأنه لا يثيبنى و لا يعاقبنى .
قال سماحته : هل تتبعه ؟
قلت : أظن ذلك على قدر فهمى .
قال سماحته : إين فهمك الذى تدعى ؟ يا بنى إن الإمام فى الصلاه ليس معصوما و لا مشرعآ لذلك فهو ليس معبوداً و لا متبوعاً .
قلت : فماذا يكون إذاً ؟
قال سماحته : هو قدوه يقتدى به المأموم و للمأموم الحق أن يذكره إذا نسى أو ينبهه إذا غفل ويصحح له إذا أخطأ أو يستدرك عليه إذا تجاوز بالزياده أو النقصان ذلك لأن المأموم يعلم ما سيفعله الإمام مسبقاً فيأخذ منه الصواب و يرد عليه الخطأ . ثم سكت سماحته فإستشعرت سؤاله المعتاد ألم تفهم ؟
قلت : بلى .
قال سماحته : فما هو التأسى ؟
قلت : ما المسئول بأعلم من السائل و سماحتكم فارس هذه المسائل .
قال سماحته : إن الأسوه شبيهه بالقدوه و لكن ليست كالقدوه . قلت : إن المعانى تشابهت على وتشاكلت و تداخلت فما الفصل ؟
قال سماحته : الإقتداء إلتزام بتقليد فى مقيد بقيمه أو جهه أو هيئه و ما إلى ذلك أما التأسى فهو تقليد غير مقيد بذلك. قلت : رحم الله إمرىء عرف قدر نفسه فأنا لا أفهم.
قال سماحته : هذا ليس بغريب .
قلت : جعل الله لى فى كل لمحه و نفس مائة ألف فرج قريب .
قال سماحته : الفرج يكون من ضيق .
قلت : ليس هناك أنكى من ضيق الأفق و الأمل فى المجيب المصيب .
قال سماحته : لو أن رجلا أنفق مقداراً من المال فى بناء مسجد فإن أنفقت نفس المقدار فى نفس الغرض فقد إقتديت به و إن أنفقت غير ما أنفق زياده أو نقصا و فى غرض أخر فقد تأسيت به – أفهمت الإسوه ؟
قلت : صدق الله العظيم [ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ] (21 الأحزاب).
قال سماحته : [ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ] (178 البقرة) فإن المؤمنين لا يستطيعون أداء ما يؤديه رسول الله من مواصلة الصيام و كثرة القيام والعدل والرحمه و الحلم و الصبر فلم يطالبهم الله بذلك لأنهم لا يستطيعون . فقال لهم يكفى أن تتأسوا بالرسول ^ لعجزكم عن الإقتداء به فى المطلق الذى لم يقيده الشرع .
و هنا أحسست بإنقشاع الغمه كأنما سكينه نزلت من السماء على قلبى و إستجلبت الفوارق بين العباده و الإتباع و الإقتداء و التأسى .

وصدق الله إذ يقول [نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّنْ نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ](76 يوسف) .
و لا حول و لا قوه إلا بالله العلى العظيم .

والسـلام عليكـم
وعليكم السـلام
مـريـد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عن حديث كتاب سنن البيهقي الكبرى – الجزء (5) ، ص (204)رقم الحديث (9524) عن جابر : قال رسول الله^:(خذوا عني مناسككم لعلي لا أراكم بعد عامي هذا).
(2)من حديث البخارى – الجزء (4) ، ص (93) رقم الحديث (6008) عن أبي سليمان مالك بن الحويرث قال رسول الله^ :( ارجعوا إلى أهليكم فعِّلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي).