دولة التسامح في مواجهة الحقد والتشدد

جريدة عقيدتي
أكتوبر 2008
 
جاء الإسلام إلى العرب ليعلنوا دولة التسامح والتفاهم فى وجه قبائل الحقد والقبح وضيق الأفق , أسس العرب بالإسلام وطن الرحمة بعد أن فشلت الجاهلية في تأسيس مثل هذا الوطن ولو في حجم بعوضه أوفى حجم قرص أسبرين وعلى بوابة هذا الوطن رصعوا أسماء الله الحسنى وصلوا صلاة الفجر تحت أعمدة مساجد رخامية تسلقت عليها التسابيح والأدعية كنباتات سماويه خضراء .
ما الذي جرى لنا بعد كل هذا العمر من الإيمان ؟ لماذا نشعر بالإفلاس الروحي رغم كل ما ورثناه من ثروات دينيه ؟ لماذا حافظنا على قشرة الإسلام الخارجية واحتفظنا تحت جلودنا بأفكار جاهليه ؟ لماذا تركنا سيمفونية الماء وعدنا إلى الجفاف والعطش ؟ لقد تفشت في العقود الأخيرة هواية تكفير الناس وسهولة رجمهم بالشرك وفى أضعف الإيمان وصف ما يفعلون بالبدعة , والبدعة ضلاله , والضلالة فى النار .
فعلنا ذلك دون أن نتذكر قول الشاعر: ”
      لا توحش النفس بخوف الظنون           وأغنم من الحاضر أمر اليقين
      فقد تساوى فى الثرى راحل غداً          وماض من ألوف الســـنين 
إن التعريف ينقذنا من هذه الهواية المؤلمة . ولو تعارفنا لتآلفنا. والتعريف هو إلتقاء على كلمة سواء. وهو أن نبحث في الشيء عن حكمه. يصعب أن نبحث عن حكم الخمر قبل أن نعرفها يصعب أن نحكم على شخص بأنه مشرك قبل أن نعرف معنى الشرك.
لقد وردت تعاريف كثيرة ومطوله ومعقده للشرك . بعضها يتعثر العلماء أحياناً فى شرحها وأغلبها ليس للعامة طاقه عليها . . فما المانع أن نحاول التوصل إلى تعريف مبسط ومحكم فى الوقت نفسه , الشرك هو أن يُجعل مع الله غيره فيما لا ينبغي إلا له . . إذاً ليس معنى الشرك أن يجعل مع الله غيره على الإطلاق. . فقد يأذن الله لأحد من خلقه بعمل هو من شأنه سبحانه وتعالى . كأن يأذن لعيسى عليه السلام بإحياء الميت . ومن ثم فمدار الأمر فى التعريف هو جملة فيما لا ينبغي إلا له فما هو الشيء الذي لا ينبغي إلا لله بحيث أستأثر به لنفسه ولم يأذن به لأحد من عباده ؟
الذي لا ينبغي إلا لله هو ” الألوهيه ” وللألوهيه مقتضيات . . بمعنى أنه لو أدعى أحد الألوهيه علينا – كما أمرنا الإسلام – أن نناقشه . . تماماً كما ناقش القرآن الكفار الذين أدعوا أنهم يمكن أن يأتوا بمثل القرآن. قال لهم سبحانه وتعالى : ” فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ” ومن ثم لو أدعى أحد الألوهيه علينا أن نسأله ما هي علامات ودلالات إلوهيتك ؟ سيقول مثلاً : أنا كريم والله كريم . . أنا غنى والله غنى . . أنا قوى والله قوى . . أنا عالم والله عالم . . أنا قادر والله قادر . . سنقول له: منذ متى وأنت تتمتع بهذه الصفات ؟ سيقول منذ ولادتي سنقول له : مبدئياً أنت مولود والله لم يولد . وبذلك نصل إلى أولى صفات الألوهيه وهى ” السبق ” أول مقتضيات الألوهيه الذي لا ينبغي لغير الله هو السبق .
ثم نقول له : هذه الصفات التي أدعيتها ما حدودها ؟ هل حدودها العالم كله بكل كائناته ؟ هل كرمك وعلمك وقدرتك وقوتك تستوعب العالم ما ظهر منه وما خفي بمخلوقاته الظاهرة والباطنه ؟ ولا شك سيقول : إن لها حدوداً سنقول له : إن الصفات ألإلهييه الخاصة به سبحانه وتعالى لها طبيعة ” الإطلاق ” الإطلاق في الماضي والحاضر والمستقبل , والإطلاق في الظاهر والباطن .
ثم نسأله: إلى أي مدى تستمر هذه الصفات ؟ مائة سنه . ألف سنه جيلاً واحداً  . ثلاثة أجيال. مهما طالت فهي فانية . بينما الصفات الألهيه تتمتع بالسرمدية ” الخلود ” عدم الانقطاع . ويكون سؤالنا الأخير له: من الذي علمك لو كنت عالماً ؟ من الذي منحك صفة الكرم لو كنت كريماً ؟ سيقول أبى , شيخي , أستاذي , على الفور سنسأله : ومن علم هؤلاء ؟ سيقول : الله  سنقول له : إذن علمك  مستمد وعلم الله غير مستمد أى ” ذاتي ” .
وبذلك تكون مقتضيات الألوهيه : السبق والإطلاق والذاتية والسرمدية , فمن أدعى لنفسه واحده منها فقد جعل نفسه شريكاً مع الله فيما لا ينبغي إلا له . وكذلك من أدعاها لغيره فهو أيضاً قد أشرك مع الله غيره .
نعود ونكرر : الشرك هو أن يجعل مع الله غيره فيما لا ينبغي إلا له والذي لا ينبغي إلا لله هي مقتضيات الألوهيه : السبق والإطلاق والذاتية والسرمدية .
السبق في القول إن أسمه هو ” الأول ” والسرمدية في القول إن أسمه هو ” الآخر ” ” والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ” .
إذا لو كان باب الإدعاء مفتوحاً فلا مفر من إغلاقه بمناقشة المدعى فيما أدعى بأن يقيم البينة بنفسه على ما أدعاه فتكون الحجة , ويقول سبحانه وتعالى : ” وجادلهم بالتي هي أحسن ” وذلك لو لم ينسب شخص لنفسه صفه من صفات الألوهيه فيكون بريئاً من تهمة الشرك ولا يجوز أن نرميه بها ويمكن أن نوجه إليه صفه بديله وهى الجهل .
وفى هذه الحالة علينا أن نزيل عنه هذه الصفة , وهذا دور العلماء .
ولابد من تعريف الشرك على هذا النحو بغلق الباب على هواية رجم الناس به بسهوله . أما البدعة فقد سبق أن توقفنا عندها. . إنها إطلاق ما قيده الله ورسوله أو تقييد ما أطلقه الله ورسوله. ويقي أن نعرف الكفر , والكفر له تعاريف كثيرة أيضاً لكن أسهل تعريف له هو : أن ينسب إلى الله ما تنزه عنه من الكم والكيف والأين والند والضد والشبيه والمثيل والشريك والزوجة والولد وكل ما خطر ببالك فهو هالك والله بخلاف ذلك .
بتعبير مبسط: الكفر أن يعتقد الإنسان في قلبه صوره لله . لكن . ما قولنا في رجل يشهد أن لا إله إلا الله بكل ما تحمل هذه الشهادة من معنى ويشهد أن سيدنا محمدً عبده ورسوله . . أى أنه واسطة بيننا وبين الله . . رجل شهد لله بالألوهيه وشهد للنبي بالرسالة . شهد أنه عبد مخلوق لله . يعتقد أن النفع والضر بيد الله . رجل مثل هذا لا يمكن أن ننعته بالكفر حتى لو سعى إلى الحصول على ما أودعه الله من سر وخير فى إنسان أو حيوان أو نبات أو غير ذلك ” فالخير بيد الله يضعه حيث شاء وعلى المؤمن أن يطلبه حيث وضعه الله ” يقول سبحانه وتعالى ” وما كان الله ليضيع إيمانكم ” .
بقى أن نعرف معنى العبادة : إن المعبود هو المقصود لذاته . وبقى أن نعرف معنى الإتباع : إننا نتبع رسول الله ابتغاء مرضاة من أرسله ” ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ” فالمؤمن لا يعبد من يتبع فالرسول غير معبود والصالحون والأولياء الذين نتبعهم غير مقصودين بالعبادة . إن الناس لا نتبعهم لدواتهم ولكن بسبب ما أودع الله لديهم من أسرار على أنه لا عاقل يقول لنا أننا نتبع الله. فالمعبود لا يتبع. والمتبع لا يعبد.
إن جوهر العقيدة كلها معرفة الفرق بين العبادة والإتباع . أما من يرمى المتبع بأنه عابد فهذا جاهل بالتعريف والجهل ليس بحجه . وفى الإتباع يكون الحب فلا يمكن أن نتبع الرسول دون أن يكون محبوباً. لكن الحب شيء والعبادة شيء آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله ” إن الحب هنا ليس لذات الرسول الكريم ولكن لحب الله . يقول سبحانه وتعالى : ” قل إن كنتم تحبون الله ” وهو المعبود ” فإتبعونى  يحببكم الله ” يعنى أنه للحصول على محبة الله يجب إتباع الرسول .
وبقى كذلك أن نعرف ما المقصود بجملة ” من دون الله ” إنها تعنى ” من غيره ” والمقصود الأولياء ولكن ليس على إطلاقهم لأن هناك أولياء لله وهم أولياء الرحمن وأولياء من دون الله وهم أولياء الشيطان. يقول سبحانه وتعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ” ولسنا الآن بصدد الكلام عن أولياء الله .
على أن الأولياء من دون الله هم الذين نهى الله المؤمنين عن اتخاذهم وأمرهم أن يتخذوا المؤمنين أولياء يقول سبحانه وتعالى ” لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ” إذن النهى هو نهى عن اتخاذ أولياء من دون المؤمنين .
إذن لو عرفنا ما معنى كلمة عباده وما المقصود ” من دون الله ” لاسترحنا من كثير مكن المغالطات ولأرحنا العامة من تفسيرات مغرضة ولأرتفع مستوى العامة إلى مستوى الخاصة ولأطمئن كل مسلم على دينه وإيمانه . وبالتالي فزيارة الأولياء ليست حراماً ولا كفراً كما يروج البعض بسبب أو بآخر
 
ولا حول ولا قوة إلا بالله