بيع العسلية فى مواجهة التبعية

صوت الأمة العدد 180
10/5/2004

 لو أمسكت بخريطة الدنيا وفردتها على طول ذراعيك.. ستكتشف بسهولة أن غالبية الدول الإسلامية متخلفة.. فقيرة.. أمية.. ترفض الحضارة العصرية.. وتصر على أنها تعيش فى حالة سلفية.
هم باسم السلفية يتمسكون بما كان يجرى أيام رسول الله وصحابته.. يدسون المخدر الدينى فى قالب سكر يغرى بتناوله.. فيتسلل ذلك المخدر إلى العروق.. يسيطر عليها.. ويصيبها بالغيبوبة.. وفى الغيبوبة نرفض التكنولوجيا الحديثة فى القتال ونتمسك بالسيف والدرع والطوب والمقالع بينما أعداؤنا يستخدمون الطائرات المقاتلة النفاثة الأسرع من الصوت.. وفى الغيبوبة نحرم وسائل الاتصالات المتطورة.. السيارة.. الطائرة.. الفاكس.. الإنترنت.. ونصر على الجمل والناقة والبغال والحمير.. إن الحقنة السلفية السائدة.. مثل الحقنة الشرجية العتيقة فى زمن الطب بالليزر.
لقد وجدنا جموعاً غفيرة من شبابنا تمزق الشهادة الجامعية فى تخصصات الطب والهندسة والصيدلة والاقتصاد والبورصة وترفض العمل فى مؤسسات الحكومة “الكافرة” وراحوا يبيعون العسلية والسواك والبخور متصورين انهم ينقون أموالهم من فلوس الحكومة الحرام.. رغم أنهم يمشون على طريق مهدته الحكومة.. ويستخدمون شبكات كهرباء مدتها الحكومة.. ويشربون من مياه طهرتها الحكومة.. ويقضون حاجتهم فى نظام صحى مولته الحكومة.. إنهم فى الحقيقة عالة على الحكومة.. وعالة على المجتمع الذى يعمل نيابة عنهم.. ويدفع الضرائب نيابة عنهم.. ويمول الخدمات التى يستخدمونها نيابة عنهم.
وفى أفضل الأحوال يفسرون الحديث النبوى الشريف الذي ورد في صحيح مسلم – الجزء (3) ، ص (1358) :
6 – ( 1732 ) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب ( واللفظ لأبي بكر ) قالا حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى قال كان رسول الله ^ إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال :  ( بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا ) .
على أن الأمر بالتيسير يقتصر على الفتوى والأمور الدينية فقط.. إن الأمر بالتيسير يجب أن يمتد إلى كآفة نواحى الحياة العملية والشخصية.. لو كانت هناك عملية حسابية تستغرق ساعة بالعقل البشرى المجرد ودقيقة بالكمبيوتر فإن الأمر النبوى بالتيسير يفرض علينا استخدام الكمبيوتر.. لو كان الحج بالمشى يستغرق شهورا فإن التيسير الذى أمرنا به أن نحج بالطائرات التى لا تستغرق سوى ساعات.
إن معنى يسروا هنا.. اخترعوا.. تقدموا.. تطوروا.. سهلوا الحياة.. ولا يعتد بتقليد الحياة فى عصر النبوة والصحابة.. وفى زمن السلف الصالح.. لو كانت الطائرة فى زمن رسول الله لأمرنا بالقتال بها.. لو كانت البورصة فى عصره ^ لترك التجارة وتفرغ  لها.. ولو كان فى زمن الصحابة فنادق خمس نجوم لزوجوا أبناءهم فيها.. ولو كان التلفزيون معروفا فى زمن الرعيل الأول من المسلمين لاستخدموه فى الدعوة.
لكن.. الذين يقولون إنهم سلفيون يرفضون كل ما لم يكن فى عصر السلف.. يأخذون الأمور الشكلية.. ليبقوا فى زمن غير زمانهم.. فالجبن حرام لأن الصحابة كانوا يشربون اللبن.. ولا يعرفون الجبن.. والجلباب هو الزى الإسلامى لأن البدلة بدعة غربية.. والسيارة حرام.. فالجمل هو وسيلة النقل الشرعية.. وهكذا خرج المسلمون من العصر الحديث.. وأعطوا ظهورهم له وولوا وجوههم شطر الماضى البعيد ليظلوا فيه.. وهو ما أسعد الغرب ونال استحسانه.. فالحضارة الغربية هى حضارة قامت على أعمدة العلماء والمفكرين المسلمين فى كافة نواحى المعرفة والتطور.. ومن مصلحة الغرب بقاؤنا فى زمن الماضى حتى نكون أداة طيعة فى يده.. وسوقا لمنتجاته.. من مصلحة الغرب أن نبقى فى مساجدنا وبيوتنا لا نغادرها حتى يصدر لنا كل ما نحتاجه ونعيش عليه.. فيزدهر اقتصاده.. وتدور مصانعه.. ويرتقى يوما بعد يوم.
إن التقدم لا بد له حتى يستمر أن يحافظ على أكبر مساحة ممكنة من التخلف على ظهر الكرة الأرضية: يقول سبحانه وتعالى: [ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ] (11 الضحى) .. والمقصود بكلمة حدث “تكلم”  أو مقصود بها “التحديث” أى التطوير.. والاكتشاف.. ليس هناك ما يمنع أن نفهم كلمة حدث على هذا النحو.. ويقول النبى ^ في الحديث الشريف في صحيح مسلم – الجزء الأول ، ص (130) :
232 – (145) حدثنا محمد بن عباد وابن أبي عمر جميعا عن مروان الفزاري قال ابن عباد حدثنا مروان عن يزيد يعني ابن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ^ : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء ) .
ويمكن فهم كلمة غريب على أنها من الغرابة وليس من الغربة.. فمن الغرابة أن النبى الذى كان لا يعرف القراءة والكتابة أتى من عند الله بقرآن يعجز فلاسفة العرب وشعراؤهم أن يأتوا بمثله.. ولم يكن النبى من عظماء قريش وإنما يتيما كان فى قريش والغرابة انه دخل مكة      (التى أخرج منها) فاتحا مسيطرا ناشرا دعوته.. والغرابة أن المسلمين.. رعاة الأغنام الذين جاءوا من قلب الصحراء هم الذين فتحوا العالم ودخلوا بلاد الفرس والروم ووصلوا إلى قلب أروبا دون تكنولوجيا.. وبرسالة سامية.. وكلمة طيبة.. فقط.. ولو كان الحكام فى كافة بقاع الأرض يبنون مجدهم على سياسة “فرق تسد” فإن الغرابة فى الإسلام أن نبيه فعل العكس.. ” وحّد تسد”.. إن تجميع الناس فتح البلاد الظالم حكامها.. ليسود العدل والمحبة والسلام وحقوق الإنسان والطمأنينة.
إن الغريب هو العجيب.. الذى لا يعتمد على معطيات المنطق العقلى السائد.. بدوى يفتح دولا متحضرة.. أمى يأتى بمعجزة لغوية سماوية.. بيئة متخلفة تفرض الحضارة السامية على أصحاب المادية الصارمة.. هذه هى الغرابة التى ولدت مع الإسلام.. أما انه سيعود غريبا.. فربما كان المقصود هنا.. أن المكان الذى خرجت منه الدعوة الإسلامية لنشر السلام والعدل فى العالم ستخرج منه الفتاوى المتأخرة المنومة المخدرة التى ستكرس التخلف.. وهنا الغرابة.. أن يسعد المسلمون بذلك.. ويصروا عليه ويتمسكوا به.
إنها فتاوى تطالب المسلمين بأن يأكلوا ما كان يأكله الصحابة.. وأن يناموا كما كانوا ينامون.. ولا يستعملوا ما لم يكن معروفا أيامهم.. الدش.. الكمبيوتر.. الليزر.. التشريح.. التشخيص.. ليأكل المسلمون بأيديهم كما كان الصحابة يأكلون.. ألا يعملوا فى الحكومة لأنه أيامهم لم تكن هنالك حكومة.. كل ما يميز المسلم السلفى هو أن يطلق لحيته رغم أنه لا فضل له فى ذلك.
ولعلنا نفهم الغرابة فى قول رسول الله وسيعود (الإسلام غريبا) بأنها نبوءة أن يعود الإسلام بفهمه الصحيح (من العلماء والفقهاء وأهل الرأى) لما كان عليه، قادرا على فرض العدل والحق والسلام.. والغرابة أن يحدث ذلك رغم ما نحن فيه من تخلف وأمية وإصرار على الجهل.
إن سر تخلف المسلمين… أنفسهم.. إن الطب موجود لكنك تجد من يفتى بتحريم العلاج ليموت المريض شهيدا.. أو بدعوى أن العلاج تغيير فى مشيئة الله..
وفي الحديث الشريف الذي ورد في صحيح مسلم – الجزء (4) ، ص (2052) :
34 – ( 2664 ) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير قالا حدثنا عبد الله بن إدريس عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ^ : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان).
والقوة هنا ليست قوة العضلات.. إنما قوة العقل.. والعلم.. والمال.. والاختراع.. ليست قوة التصورات الخاطئة التى يعيش أصحابها على بيع البخور أمام المساجد بل قوة من يزرع وينتج ويبنى ويعمر ويطور ليست قوة العاطلين والكسالى.
وكما ورد فى سنن ابن ماجة الجزء(1) ص(740-741)
2198- حدثنا هشام بن عمار حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأخضر بن عجلان حدثنا أبو بكر الحنفي عن أنس بن مالك أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي ^ يسأله فقال ( لك في بيتك شيء ) قال بلى حِلْسٌ نلبس بعضه ونَبْسُطُ بعضه وقدح نشرب فيه الماء قال : ( ائتني بهما ) قال فأتاه بهما فأخذهما رسول الله ^ بيده ثم قال : ( من يشتري هذين ؟ ) فقال رجل أنا آخذهما بدرهم قال : ( من يزيد على درهم ؟ ) مرتين أو ثلاثا قال رجل أنا آخذهما بدرهمين . فأ’عطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري و قال : ( اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قَدوما فأتني به ) ففعل فأخذه رسول الله ^ فَشَدَّ فيه عودا بيده و قال : ( اذهب فاحتطب ولا أراك خمسةعشريوما ) فجعل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فقال : ( اشتر ببعضها طعاما وببعضها ثوبا ثم قال : ( هذا خير لك من أن تجيء والمسألةُ نُكتََةٌ في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تصلح إلا لذي فقر مُدْقعٍ أو لذي غُرمٍ مُفظِع أو دم مُوجِعٍ .
و قال ^ : ( اذهب فاحتطب ولا أراك خمسةعشر يوما) أى لا أراك حتى فى المسجد وأصحاب الفتاوى المحبطة الذين لم يقرأوا الحديث النبوى الشريف الذي ورد في الأدب المفرد – ص (168-169) :
479 – حدثنا أبو الوليد قال حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن زيد بن أنس بن مالك عن أنس بن مالك عن النبي ^ قال :( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها ) .
.. ولم يقرأوا قوله سبحانه وتعالى: [ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْـمُؤْمِنُونَ  ] (105 التوبة).. ولم يقل خربوا.. دمروا.. وفجروا.. وأحرقوا.. وأقتلوا.. إن مثل هذه الأفعال هى تعبير عن عقد نفسية يعانى منها الذين نبذوا العمل وعاشوا عالة على الناس وشعروا بغل نحو كل ما يملكه الآخرون.. ومن ثم سعوا لتخريب سياراتهم وحرق بيوتهم.. ليبيع كل الناس العسلية والبخور مثلهم.
الغرب يريدنا أن نبقى على هذه الصورة.. وقد شجع أصحابها.. واستخدمهم فى صراعاته السياسية والعسكرية فى أفغانستان.. ضد الاتحاد السوفيتى.. ولم يعترض على التفجيرات والاغتيالات التى يرتكبونها فى بلادهم.. لكن.. ما إن وصلت التفجيرات للغرب نفسه حتى قام وانتفض ورفض وغضب.. وبعد أن كان يسميهم بالمجاهدين أطلق عليهم صفات الإرهابيين والمجرمين والمتطرفين.. والغرب سعيد بأن نبقى على هذه الصورة حتى نتحمل نيابة عنه المصانع القذرة الملوثة للبيئة على أن يعيش هو فى بيئة نظيفة.. وحتى يستغل كل ما نملك من موارد مادمنا نحن نصر على أن العمل حرام.. وأن بيع العسلية هو التجارة الشرعية المناسبة لنا. يقول ^ في الحديث الشريف الذي ورد في صحيح البخارى – الجزء (2) ، ص (152) :
2320 – حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة ( ح ) وحدثني عبد الرحمن بن المبارك حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ^ ( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة).
 لكن.. لا أحد من الكسالى العاطلين يقدر على استيعاب ذلك.. كل ما عليه أن يحرم المياه المثلجة لأنه لم يكن هناك ثلاجات أيام الرسول.. ويحرم الصلاة فى مساجد الأوقاف لأن الحكومة “الكافرة ” تنفق عليها.. رغم أنه يتوضأ بمياه كافرة من الحكومة ويقرأ على كهرباء كافرة من الحكومة.. إن الغرب ليس وحده الذى يكيل بمكيالين.. نحن نكيل بألف مكيال.. وكلها غريبة غير معايرة مبتدعة تماما.. كلها مكاييل تعتبر التطور بدعة.. وكل بدعة ضلالة .. وكل ضلالة فى النار.. ولأن لا أحد يريد أن يشوى فى النار نجد الناس تجلس على رصيف الحياة متسولة ملتحية فى انتظار الجنة.
ويمكن القول إن هؤلاء هم عملاء الغرب الذين يسيرون أعماله ويحققون أهدافه دون مقابل.. يلوثون الأفكار بلا مقابل.. يقبلون كل شئ سيئ بلا مقابل.. رغم أن الرسول ^ يقول في الحديث الشريف الذي ورد في صحيح البخارى – الجزء الأول ، ص (441) :
1427 – حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنـا وهيب حدثنا هشام عن أبيه عن حكيم بن حزام رضي الله عنه: عن النبي ^ قال : ( اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غني ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ).
ورغم أنه يقول أيضا في الحديث الشريف الذي ورد في صحيح البخاري – الجزء (3)، ص ( 78-79 ) :
3936 – حدثنا يحيى بن قزعة حدثنا إبراهيم عن الزهري عن عامر بن سعد بن مالك عن أبيه قال: عادني النبي ^ عام حجة الوداع من مرض أشفيت منه فقلت يا رسول الله بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال ( لا ) . قال فأتصدق بشطره ؟ قال ( الثلث يا سعد والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ).
لقد خدعوك فقالوا إنهم سلفيون ملتزمون بكل ما كان فى زمن الرسول والصحابة.. إن الالتزام يكون بالأخلاق.. لا بالشكليات الجامدة.. التى تسكن الإنسان فى الماضى وتبقيه فى الكهف لا يخرج منه

ولا حول ولا قوة إلا بالله