عندما يصبح التوكل على الله مجرد حالة غيبوبة

صوت الأمة العدد 164
19/1/2004

العبارة جاهزة لنستخدمها في تفسير الكوارث والمصائب والفشل الرسمي والحكومي ….في تحقيق الرفاهية: “إنه غضب من الله” يقع الزلزال..نتعرض لموجه من الإرهاب.. يرتفع سعر الدولار تنخفض قيمة العملة المحلية.. نسقط في العبارة التي أصبحت ختماً مثل ختم النسر، نضعها على كل ما يجري لنا: “إنه غضب من الله”.. ولو كان ذلك صحيحا.. فهل يرضي الله على الولايات المتحدة لو تفوقت على العرب وأحتلت العراق؟..هل يرضي الله على اليابانيين عندما يصلون بدخل الفرد إلى أعلى مستوى؟.. هل يرضى الله على توني بلير لو نجح في سياساته الداخلية؟. إن الله ليس حدادا يصنع سيوف السياسات العاجلة لتعويض تهرب الناس من الضرائب وليس وزيرا للعمل عليه أن يعاقب المقصرين في أداء أعمالهم والتكاسل في القيام بها .. الله سبحانه وتعالى لا يعاقبنا على ما نفعله بأنفسنا.. إننا الذين نعاقب أنفسنا على ما تجنيه عقولنا وأيدينا.. لو اصابتنا حسنة فمن الله..ولو أصابتنا سيئة فمن أنفسنا.. هذا قانون سماوي إلهي.. يجب الا ننساه. لقد كان سيدنا عمر بن الخطاب إماما عادلا وكان  الإسلام في وقته سليما صحيحا وكان المسلمون لا يزالون في قمة إيمانهم ورغم ذلك وقعت المجاعة في عهده وجف الزرع والحرث وتعطل حد السرقة.. فهل كان ما حدث نتيجة إهماله في إدارة شئون الأمة أو نقص في  ورعه وتقواه؟.. وشهد المسلمون في عصر الخليفة عمر بن عبد العزيز رخاء لم يشهدوا مثله من قبل.. فهل كان ذلك دليل فطنة وخرقا للعادة؟..هل كانت السماء تسانده..ولم تفعل الشيء نفسه مع سيدنا عمر بن الخطاب؟.
إن القضية ليست قضية صلاح عمر بن عبد العزيز.. ولا إهمال سيدنا عمر بن الخطاب.. ليست شطارة من جورج بوش.. ولا شدة إيمان من البوذيين في الصين واليابان.. القضية كلها تتعلق بعامل مساعد خارجي يتعلق بالإرادة  الإلهية.. الله سبحانه وتعالى هو مالك الكون كله وموزع الأرزاق.. لا أحد يسأله عما يفعل هو حر في أن يوزع ما يملك على أكثر الناس فسادا.. ولا يمنح شيئا لأكثر الناس ورعا وربما نتعرض لكارثة رغم صلاح الحاكم والرعية وربما العكس تماما.. يقول الله سبحانه وتعالى: [ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُـتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ] (16 الإسراء).. هنا مشيئة الله واضحة في كل ما يحدث ..ويقول سبحانه وتعالى: [ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُهْتَدُونَ ] (155-157 البقرة) لم يقل نقص في الأموال والأنفس والثمرات.. قال نقص من..أي نقص في القيمة لا في الكمية.
والمقصود أن المشيئة الإلهية هي العنصر الغائب في مناقشة الأزمات التي نعانى منها.. لا نقول حلها يا دكتور عاطف عبيد.. فمعنى ذلك أن الأزمة بيده  هو وحده.. وكأن الشعب ينتج ويعمل ويكد ويسهر على رزقه.. كأن الناس عملت ما عليها ليكون الحل في يد الحكومة وحتى لو كان الناس تعمل ما عليها والحكومة أيضا فإن هناك أشياء قدرية سماوية خارجة عن إرادة الجميع.. مثل الكوارث الطبيعية والمتاعب السياسية الخارجية.. وهذه  هي العامل الخفي الذي لا يد لنا فيه.. إنه عامل الإرادة الإلهية الذي لا نستطيع إنكاره أو تجاهله. إن من الممكن أن نبنى مساكن شعبية ليسكن فيها الناس إذا ما وقع زلزال.. لكن.. ماذا لو حدث أن الزلزال قد هدم هذه المساكن أيضاً؟..هنا يأتي العامل السماوي الخفي الذي لا نضعه في الحسبان.. هذه ليست دروشة بالمعنى الدارج وإنما توكل بالمعنى الصحيح للتوكل.. إن الورقة التي نكتب عليها يجب أن تكون حقيقة قائمة.  يجب أن توجد حتى نستكمل عملية الكتابة.. إن توافر قلم وحبر وكاتب لا يكفي.. الورقة هنا هي عنصر الاعتماد على الله. هذا ليس عيبا.. هناك عنصر يجب أن نتركه لله.. ومرة أخرى هذا ليس توكلا بالمعنى الخاطئ الشائع..فالتوكل الصحيح في الإسلام هو  ( إتخاذ الأسباب وقبول النتائج والرضا بها ) فإن حصل مالا يرضى فلتكن الزيادة في التوكل.. فنتخذ المزيد من الأسباب مثلا لو بنينا بيتا لمواجهة الزلزال الذي تعودنا عليه فنرضى بما قدر الله إّذا آتى زلزال وهدمه. ثم نبحث في الأسباب الجديدة ونبني بيوتا تواجه الزلزال الأشد وفي الوقت نفسه نسعى بكل الطرق العملية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تحت الأنقاض فإن فشلنا في إخراج البعض أحياء تقبلنا ما قدر الله وقبلنا بالنتائج ودفنا الموتى.. إن علينا اتخاذ كل الأسباب لكن في الوقت نفسه لا نفرض نتائج على الله ولا ننسى المسبب .علينا أن نتقبل النتائج مهما تكن بعد أن نكون قد فعلنا ما علينا ثم لا نتخذ الأسباب في مرحلة ونتركها في مرحلة تالية فالله طلب منا أن نفكر وندبر، نستعد ونخطط ونكون أمناء ومحترمين فإذا ما جاءت الكارثة نرضى ونصبر ونتخذ المزيد من الأسباب نستمر في  إتخاذ الأسباب لكن دون  الإعتراض على النتائج التي يقدرها الله. يقول سبحانه وتعالى: [ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَـحْرُثُونَ * ءَأََنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ] ( 64،63 الواقعة).. نحن الذين نحرث ونزرع ونروي ونتخذ الأسباب لكن الله هو الذي يحدد النتائج يجب ألا ننسى أن لهذا الكون مدبراً ( لا الأمر أمرى ولا التدبير تدبيري ولا المقادير التي تجرى بتقديري ) لكن هذا لا يمنع اتخاذ الأسباب أكثر وأكثر وأكثر.. مهما تكن النتائج لا أيأس ..( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ). يقول النبي ^ في الحديث الشريف الذي ورد
بسنن ابن ماجه – الجزء (2)، ص (1394) :
4164 – حدثنا حرملة بن يحيى . ثنا عبد الله بن وهب . أخبرني ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني قال سمعت عمر يقول سمعت رسول الله ^ يقول: ( لو أنكم توكلتم على الله حق توكله . لرزقكم كما يرزق الطير . تغدو خماصا(جائعة)  وتروح بطانا(ممتلئة بالطعام)) .. لم يقل تظل في أعشاشها.. لقد فهم الناس أن الله يرزق الطير ونسوا أن الطير تطير وتترك أعشاشها بحثا عن رزقها الذي قدره الله لها.. ليس هناك قانون عمل يلزم الطيور والحيوانات بالعمل ولا وزارة للقوى العاملة تحاسبها.. إنها تسعى وتعمل وتفعل ما عليها ثم ترضى بما قسمه الله لها. إن المفهوم الخاطئ للتوكل هو ألا نعمل وننتظر رزقا.. إن علينا اتخاذ الأسباب ثم نتقبل النتائج. علينا أن نذهب بالمريض إلى الطبيب ونقوم بالتحاليل ونعطيه الدواء وندخله حجرة الجراحة ونعطيه إذا لزم الأمر تنفسا صناعيا فإذا ما مات رغم ذلك نتقبل الأمر ونصبر عليه وساعتها سنشعر بالراحة النفسية فقد فعلنا ما علينا. وفي مرحلة من مراحل اتخاذ الأسباب علينا أن نفهم ونستوعب فالتوكل حالة من حالات الوعي. وليس حالة من حالات الغيبوبة. على الناس أن تعمل وتكد. وعلى الحكومة أن تكون أمينة وغير فاسدة . وفي النهاية نقول الحمد لله مهما تكن النتائج لكن ما يحدث أن الناس تتكلم كثيرا في الدين ولا تقوم بأي عمل لتغيير ما تعاني منه.. المهندس يتكلم في الدين ولا يهتم بخلطة الحديد والأسمنت فتقع العمارات ويتصور خطأ أن هذا من عند الله ..والطبيب يتكلم في الدين ولا يتابع أحدث نظريات العلاج فيموت المرضى ..ويتصور أنه فعل ما عليه والحكومة ترتدي مسموح الإيمان وتترك الأمور بعيدة عن السيطرة ثم تتصور أنها فعلت كل ما عليها إن علينا أن نزود مساحة العمل بالدين لا مساحة الكلام عنه نزرع جيدا ندير ببراعة نعالج بالإتقان نعلم بأحدث الطرق هذا هو العمل بالدين أما الكلام عنه فلا طائل منه سوى أن نجلد أنفسنا ونضيع وقتنا وندخل في قضايا وهمية إن ما أكتبه هو خواطر قابلة للصواب والخطأ.. محاولة لحل لغز اليأس والفشل والإحباط الذي نعاني منه.. وهو لغز قابل للنقاش كلمة منك وكلمة مني ونحصل على الحل عمل منك وعمل مني وتتغير الدنيا إيمان منا ونتقبل كل ما قسمه الله ونصبر عليه مهما كان وأتصور أن الحل ليس في يد الحكومة وحدها ولا في يد الناس وحدهم ولا في يد التوكل على الله فقط الحل في كل ذلك معا.. إن هناك نوعا من الخزائن لا يفتح إلا بأكثر من مفتاح في الوقت نفسه والمفتاح الأول هنا أن تتغير الحكومة وتعمل بجدية وأمانة والمفتاح الثاني أن يتخذ كل منا الأسباب للنجاح والفهم والمفتاح الثالث هو أن نتوكل على الله بالمعنى الصحيح.. ثم يجب استخدم هذه المفاتيح معا في وقت واحد.. أتصور أن اللغز سيحل.. فالله سبحانه وتعالى لا يختبرنا في الأمور والأشياء التي لا نقدر عليها

ولا حول ولا قوة إلا بالله