البدعة والخدعة

صوت الأمة العدد 94
16/9/2002

عندما تحسست طريق مشاعري ناحية الكتابة اعتبرت اللغة نوعا من العزف على بيانو نستمتع به لذاته .. فمارست رقابة موسيقية شديدة على تشابك الحروف والكلمات لتحافظ على الوزن والرنين .. لكن .. فيما بعد تخلصت من هذه الأفكار .. وكسرت حواجز الحدود بين ما أكتب وما يقوله الناس .. فالجمال لا يطلب لذاته وإنما يطلب لنفعه وإلا صرنا عبدة أوثان منحوتة من الكلمات . أما الكلمة التي توقفت عندها طويلا وشعرت بأنها مثل فرس جامح تصعب السيطرة عليه فهي كلمة “بدعة ” إنها الكلمة التي تفتح أبواب الجدل والشجار بين المسلمين وتجعلهم في حالة نفور دائم وكأنهم في حالة مزمنة من حالات الحرب الأهلية .. فكل من أراد أن يحرم علينا شيئا وصفه بالبدعة .. وكل من أراد أن يجعلنا نمشي على الأشواك والمسامير والزجاج المكسور وصف ما نفعل بأنه بدعة .. ولأن الناس يحرصون بشدة علي دينهم ويتفانون فيه فإنهم يخشون على أنفسهم من البدعة .. كل ما لم يكن معروفا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبرناه بدعة .. وخشينا على أنفسنا منه . وورد في الحديث الشريف في مسند أحمد بن حنبل – جزء (28) ، ص (373) :
17144 – حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا الضحاك بن مخلد عن ثور عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن عرباض بن سارية قال : صلى لنا رسول الله ^ الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب قلنا أو قالوا يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فأوصنا قال ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعَضُّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة ) .
وفي حديث آخر : مسند الشاميين – الجزء (3) ، ص (172-173)
2017 – حدثنا أبو يزيد القراطيسي حدثنا أسد بن موسى حدثنا معاوية بن صالح حدثني ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية السلمي يقول وعظنا رسول الله ^ موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب قلت يا رسول الله هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا قال: ( لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا عضوا عليها بالنواجذ وإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما انقيد انقاد).
كما ورد في صحيح مسلم – الجزء (3)، ص (1343)
17 – ( 1718 ) حدثنا أبو جعفر محمد بن الصَّبَّاح وعبد الله بن عون الهلالي جميعا عن إبراهيم بن سعد قال ابن الصباح حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثنا أبي عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت :
قال رسول الله ^ ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ).
أي مردود عليه .. لقد استخدم هذا الحديث الشريف في إخراج المسلمين من العصر الذي نعيش فيه .. فبدا بعضنا ونحن في عصر الفضاء والإنترنت والكمبيوتر وكأنه ينتمي إلى عصر الكهف .. وقد راح كل منا يناقش كل مظهر من مظاهر هذا العصر على أنه بدعة .. وتورطنا في تفاصيل كل شيء على حدة .. فتاه الناس وتهنا معهم .. وضاع الناس ولحقنا بهم .. فقد خلت المناقشة من تعريف للبدعة نقيس عليه كل ما يصادفنا من مظاهر .. خلت من القانون .. والقاعدة .. والميزان .. لقد فتح الله علينا بتعريف للبدعة يمكن أن نقيس عليه ونزن به .. البدعة هي إطلاق ما قيده الله ورسوله ^ .. أو تقييد ما أطلقه الله ورسوله ^.. كل ما لا ينطبق على هذا التعريف نعتبره بدعة نتجنبه ونرفضه .. فنريح ونستريح إن العبادات مقيدة .. لا يجوز إطلاقها .. إطلاقها هنا بدعة .. العبادات مقيدة إما بمكان وزمان كالحج ( الزمان 9 من ذي الحجة والمكان جبل عرفات) أو بزمان وجهة وهيئة مثل الصــلاة ( الزمان : مواقيتها المعروفة والجهة: القبلة شطر المسجد الحرام. والهيئة : السجود والركوع والجلوس) .. أو بزمان مثل الصوم ( شهر رمضان) أو بزمان وقيمة مثل الزكاة بمختلف أنواعها ( زكاة الفطر وزكاة المال وزكاة الزروع كل منها له وقته وقيمته ) .. أما شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله ( وهي أهم العبادات ) فليست مقيدة بزمان أو جهة أو قيمة أو هيئة أو مكان. هذا ما قيده الله ورسوله في العبادات فمن أطلقه يكون قد ابتدع .. فالحج لا يمكن أن يكون في شهر رمضان .. والصوم لا يمكن أن يكون في شهر شوال .. والزكاة لا يمكن أن تكون على هوى الإنسان ووقفة عرفات لا يمكن أن تكون فوق جبل المقطم .. وصلاة العشاء لا يمكن أن تكون ثلاث ركعات .. إن تجاوز هذه الحدود الواضحة هو البدعة بعينها والتي تنتهي بصاحبها في النار .. أما ما هو مطلق .. مثل الصدقة فلا يجوز لأحد تقييدها .. أو تحديدها ولو فعل ذلك يكون قد ابتدع . إذن هناك أشياء قيدها الله ورسوله ^ من أطلقها فهو مبتدع لأنه يكون قد أحدث في الدين ما ليس منه .. هذه هي القاعدة .. وقد يكون من المريح القياس عليها .. فننجو من تهمة البدعة التي أضلتنا وأوصلتنا جميعا إلى جهنم ونحن لا نزال على قيد الحياة ..
وكما ورد في مسند الإمام أحمد – الجزء (31) ،ص (536)
19200 – حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا سفيان عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن جرير : ان قوما أتوا النبي ^ من الأعراب مجتابي النمار فحث رسول الله ^ الناس على الصدقة فابطؤا حتى رؤى ذلك في وجهه فجاء رجل من الأنصار بقطعة تبر فطرحها فتتابع الناس حتى عرف ذلك في وجهه فقال من سن سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شيء ومن سن سنة سيئة عمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا.
( من سن في الاسلام سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له اجرها ومثل اجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شيء ) هذا الاجتهاد لفهم النص
( ومن سن سنة سيئة عمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيء ) هذا الاجتهاد لمخالفة النص .. إطلاق المقيد .. أو تقييد المطلق .. هذا هو القانون .. الميزان .. القياس .. وسيلة الحساب .. وقد صيغت لحماية العبادات .. فتفتح الباب لقبول كل ما هو جديد بعد ذلك في مجالات العادات .. يقولون ” التورتة ” بدعة .. دون أن ينتبهوا إلى أنها في أصل مكوناتها دقيق ولبن وسكر وسمن .. فهل في هذه المكونات ما هو حرام ؟ .. ويقولون عروس المولد وحصان المولد بدعة .. ليس في مكونات هذه الحلوى ما هو حرام .. أما الخوف من أن تكون العروس الحلاوة أو الحصان الحلاوة وثنا فهذا كلام يسهل تفنيده. .. إن التمثال إذا لم يعبد لذاته أو ابتغاء شيء أو ليقربنا إلى الله فهو مجرد تمثال فلو عبدناه ليقربنا إلى الله فهو صنم فإن عبدناه لذاته فهو وثن .. وهذه التماثيل المصنوعة من الحلوى . والتي كان يسجد لها عظماء الناس قبل الإسلام أصبحت لعب للأطفال بعد الإسلام ولم نسمع عن أحد عبدها .. ولو كنا خفنا على إيماننا من تمثال لحصان فما بالنا لو وجدنا أمامنا حصانا حقيقيا. لقد دخل الصحابة في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مصر وكانوا حكاما ولم يكونوا مستضعفين وتجولوا في عرض البلاد وطولها وشمالها وجنوبها ورأوا معابد الفراعنة وتماثيلهم من مختلف الأشكال والأحجام ولكن ما سمعنا أن صحابيا من الصحابة الأجلاء كسر تمثالا .. لأنهم كانوا يعرفون أنه ترجمة لحضارة لا يجوز تحطيمها وتمثال رمسيس شاهد على ذلك من عشرات القرون .. فلم نجد أحدا يلقي إليه بقربان .. أو يتقرب إليه بشيء .. هل نحن أدرى من صحابة رسول الله ^ الذين تعلموا منه ؟ . كان الرسول ^ قبل الهجرة إلى المدينة يطوف بالبيت الحرام والأصنام من حول الكعبة .. كانت بالنسبة إلى غيره معبودة لكن لم تكن بالنسبة إليه ذات قيمة .. ولم يمنع ذلك رسول الله ^.. وعندما هاجر إلى المدينة وبعد تغيير القبلة كان يصلي في اتجاه البيت الحرام والأصنام لا تزال حول الكعبة .. لماذا لم يكسرها الرسول ^ كما كسرها أبوه إبراهيم عليه السلام .. لقد كسر إبراهيم عليه السلام بعضها وترك بعضها فنتج عن ذلك أن عبدة الأصنام والأوثان قد استدركوا واستوعبوا أنها كانت هشة .. تصنع من طين .. فكان أن جددوها ونحتوها من حجارة صلبة .. يصعب كسرها لقد حسنوها وزينوها وراجت تجارتها .. لقد جاء الرسول عليه الصلاة والسلام لينزع العلاقة الداخلية بين قلب المؤمن وهذه التماثيل فعلم المسلمين أنه لا اله إلا الله فأدركوا أنها ليست آلهة فانتزعت هيبتها من قلوب المسلمين فماتت واقفة دون أن يمد الرسول يده الكريمة ليكسرها .. وعندما فتح الله عليه مكة دخل البيت الحرام وليس في يده فأس أو بلطة بل قضيب صغير .. دخل البيت الحرام ليتلوا قول الحق سبحانه وتعالى : [ وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ] (81 الإسراء)
وكان كلما أشار إلى تمثال انكفأ على وجهه أو انقلب على قفاه فلا يجد مسعفا ولا منقذا من أولئك الذين كانوا مع رسول الله ^.. فكانوا يدحرجونه بأرجلهم حتى يخرجوه .. كل هذا لأن الإسلام نزع العلاقة القلبية بين الإنسان والحجر.
وكما ورد في الحديث الشريف في صحيح البخاري – الجزء (2) صفحة (201)
2478 – حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :دخل النبي ^ مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا فجعل يطعنها بعود في يده وجعل يقول : جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ

ولا حول ولا قوة إلا بالله