الغـيب

مجلة التصوف الإسلامى
عدد(306) يوليو سنة 2004

[ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ ]

(65 النمل)

بفرحة الجبر بعد الكسر و الغنى بعد الفقر و الوصل بعد الهجر و النوال بعد الصبر التقيت بسماحة الإمام .
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .. و عليكم من الله السلام .

قلت : سيدى هل هناك من يعلم الغيب إلا الله ؟
قال سماحته : لا .. ثم سكت سماحته .
وبعد فتره من الصمت أراها قاسيه على مثلى .. قلت : و ماذا بعد ؟
قال سماحته : لا بعد و لا قبل .. سألتني فأجبتك و أنتهى الأمر
قلت : يبدو أنى لا أعرف كيف أسأل و هذه كبرى ميزاتي .
قال سماحته : فما عيوبك ؟
قلت : يعلمها الله و يسترها الصالحون .
قال سماحته : إذا أردت أن تسأل عن الغيب فلا يكون السؤال هكذا .
قلت : أعلم أن من يجيد السؤال يوفق إلى الفهم فعلمنى كيف أسأل .
قال سماحته : تقول هل هناك أنواع للغيب ؟ و هل علم الله أحدا من خلقه بعضا من غيبه ؟ وأطلعهم على أسراره بمطلق إرادته إظهارا لعظمة صنعته وإعجازا لعباده المقربين إلى حضرته ؟
قلت : و من أين لمثلى بلوغ هذا القدر وولوج هذا البحر و هذا الغور .
قال سماحته : إعلم يا بنى أن الغيوب إنما هى غيوب على العباد و ليس على الله من غيب فالعالم علما مطلقا لا غيب عليه ، و أما أصحاب المعارف المتفاوته و المتباينه فهم بين الغيب و الشهاده يجهلون ثم يعلمون ثم يجهلون ما يعلمون ثم يعلمون ما يجهلون .
قلت : يبدو أن الله تعالى قد أراد لى أن يهدأ قلبى و تسكن سريرتى و تطمئن نفسى فأنا فى أمر الغيب جهول و عن فهمه كلول و لكنى مع ذلك عجول ملول .
قال سماحته : أتريد أن تسمع أم تريد أن تقول ؟
قلت : عفوا فالقول لكم ؟
قال سماحته : هناك غيب يسمى غيب الشهاده. و غيب يسمى غيب الإراده و غيب يسمى غيب الإيمان و غيب يسمى الغيب المحمدى و غيب يسمى الغيب المطلق ..
و كعادتنا نحن الجهله نركب عجلة الندامه و نقاطع العلماء .
قلت هذا كلام جديد غريب لم أسمعه من قبل .
قال سماحته : أنت تريد أن تعرف ما تجهل أم تسمع ما تعرف ؟
قلت : عفوا سيدى فما هو غيب الشهاده.
قال سماحته : لو أن فى جيبك شيئا أنت تعلمه و من بجوارك لا يعلمه يسمى بالنسبه لك شهاده وبالنسبه لغيرك يسمى غيبا و هذا النوع من الغيب يشترك فيه الناس جميعا و قد يعلمه بعض الحيوانات كالكلاب البوليسيه أو كما يقال إن الكلاب و الخيل تتنبأ بالزلازل هذا غيب شهاده.
قلت : و ما غيب الإراده ؟
قال سماحته : هذا النوع من الغيب فى أن البعض يستغربون ما قالته الملائكه لله تعالى يوم أخبرهم بأنه جاعل في الأرض خليفه فقالوا :[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ … ] (30 البقرة) فالله وحده هو الذى يعلم المستقبل و لا حرج عليه سبحانه أن يكشف منه ما يشاء لمن يشاء عندما يشاء و لو علموا أن غيب الإراده علمه الله للملائكه لما قالوا أن بشرا قبل آدم كانوا فى الأرض فأفسدوا ثم أزالهم الله و على ذلك فالملائكه تتحدث من باب سبق الخبره ، و الحقيقه أن الملائكه لا تعلم الغيب إلا بالقدر الذى سمح به ربنا سبحانه و تعالى لهم . هذا غيب الإراده.
قلت : فما غيب الإيمان ؟
قال سماحته: هذا النوع من الغيب علمه الله تعالى للصالحين و الأولياء .
قلت : الأولياء يعلمون الغيب ؟
قال سماحته : كل شىء بإذن الله ممكن و بغير إذنه تعالى هو المستحيل .
قلت : مثالا ؟
قال سماحته : أضرب لك مثالا واحدا لعلك تفهم .
ثم قال سماحته: أتعرف سوره فى القرآن تسمى سورة الكهف .
قلت : نعم [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ] (13 الكهف)
قال سماحته : أتعرف قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر ؟
قلت نعم : إنها تمثل علاقة المريد بالشيخ .
قال سماحته : ليس هذا موضوعنا أيها العجول ، ثم أستطرد يقول : ألم يعلم سيدنا الخضر بأمر الله الغيبى الخاص بالسفينه و أصحابها و الملك الذى يأخذ كل سفينة غصبا ؟
قلت : بلى .
قال سماحته : و كذلك الغيب المخبوء خلف الغلام و أبويه المؤمنين و ماذا سيحدث فى مستقبل حياته مع والديه من الطغيان و الكفر و كذلك ما خبأه الله من سر تحت الجدار الذى كان لغلامين فى المدينه و أمر الكنز ؟ ثم إستطرد سماحته يقول : اليس فى ذلك علم بالغيب تفضل الله به على عبد من عباده و ليس بقدرة العبد الصالح الذاتيه .
قلت : أكتفى بهذا القدر عن الغيب حتى لا يمل القارىء أو تضيق المساحه المخصصه للحوار .
قال سماحته : لا تقطع على إسترسالى ، و إعلم أن القراء ليسوا أمثالك فهم يفهمون .. فهذا الموضوع له جاذبيته و حلاوته و أما المساحه فهذا شأننا و ليس لك دخل بها.
قلت : لا تواخذنى بما نسيت و لا ترهقنى من أمرى عسرا .
قال سماحته : أما الغيب المحمدى فهو ببساطه قدر رسول الله ^ و هو لا يعلمه إلا الله و قد قال عنه : [ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ] (27،26الجن) ، و الغيب هنا تحديدا و ليس دائما هو قدر رسول الله ^ ومنزلته و مقامه فلا يعرف أحد من الناس عنه إلا بالقدر الذى يريد الله أن يكشفه لمن يريد سبحانه .
و لاحظ أن الله يقول [فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا] و هى للإستثناء لمنع الحكم المطلق الذى يحلو للبعض القول به .
قلت : على قدرى فهمت و لكن ما هو الغيب المطلق ؟
قال سماحته : هذا هو المتعلق بالله سبحانه و تعالى و لا يوجد إستثناء بإلا [ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ ] (65 النمل)
قلت : الان فهمت لماذا عندما سألت سماحتكم فى أول اللقاء هل هناك من يعلم الغيب إلا الله ؟ قلت سماحتكم : لا و لم تزد حرفا و لعل سماحتكم كنت تقصد هذا النوع من الغيب .
قال سماحته : أقصد هذا الغيب و الغيوب الأخرى فلا أحد يعلم أى شىء إلا إذا علمه الله و لله در الملائكه المكرمين عندما قالوا [ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ ] (32 البقرة).
قلت : لا علم بغير معلم و قد تعلمت اليوم من سماحتكم كيف أعرض سؤالى ففى حسن السؤال نصف الإجابه و فهم الإجابه منحه من الله .
قال سماحته : الان ينبغى لك أن تقول أكتفى بهذا القدر .
قلت : أرجوا أن تتفضل على بقبول هذا العذر .
قال سماحته : قبلت عذرك و قبلت أن أراك مره أخرى و لا تثريب عليك يغفر الله لك .
قلت الحمد لله و لا حول و لا قوة إلا بالله .

والسـلام عليكـم
وعليكم السـلام
مـريـد