مشروعية الإحتفال بالموالد

مجلة التصوف الإسلامى
عدد رقم – 345
 
دار الإفتاء المصريه
تجيز مشروعية الإحتفال بالموالد
 
القرآن الكريم أمرنا بتذكر الأنبياء والصالحين وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أول من سن لنا الإحتفال بمولده الشريف ” فإسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ” ” النحل 43 ” ,, إطلعنا على الطلب المقدم من / مشيخة عموم الطرق الصوفيه المقيد برقم 1186 لسنة 2007 بتاريخ 30/7/2007 المتضمن :
ما حكم الإحتفال بالمولد النبوى وموالد آل البيت وأولياء الله الصالحين ؟
المولد النبوى الشريف إطلاله للرحمه الالهيه بالنسبه للتاريخ البشرى جميعه, فلقد عبر القرآن الكريم عن وجود النبى صلى الله عليه وآله وسلّم بأنه ” رحمه للعالمين ” , وهذه الرحمه لم تكن محدوده , فهى تشمل تربية البشر وتزكيتهم وتعليمهم وهدايتهم نحو الصراط المستقيم على صعيد حياتهم الماديه والمعنويه , كما أنها لا تقتصر على أهل ذلك الزمان , بل تمتد على أمتداد التاريخ بأسره (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ) ( الجمعه : 3 ) .
والإحتفال بذكرى مولد سيد الكونين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبى الرحمه وغوث الأمه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم , ومحبة النبى صلى الله عليه وآله وسلّم أصل من أصول الإيمان , وقد صح عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلّم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) رواه البخارى
قال ابن رجب : ” محبة النبى صلى الله عليه وآله وسلّم من أصول الإيمان , وهى مقارنه لمحبة الله عز وجل , وقد قرنها الله بها , وتوعد من قدّم عليهما محبة شىء من الأمور المحببه طبعا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك , فقال تعالى : ( قل إن كان آبائكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال إقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره ) ( التوبه : 24 ) , ولما قال سيدنا عمر للنبى صلى الله عليه وآله وسلّم : يا رسول الله , لأنت أحب إلى من كل شىء إلا نفسى , قال النبى صلى الله عليه وآله وسلّم : ( لا والذى نفسى بيده , حتى أكون أحب إليك من نفسك ) فقال له سيدنا عمر : فإنه الآن والله لأنت أحب إلى من نفسى , فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلّم ” الآن يا عمر ” رواه البخارى .
والإحتفال بمولده صلى الله عليه وآله وسلّم هو الإحتفاء به , والإحتفاء به صلى الله عليه وآله وسلّم أمر مقطوع بمشروعيته , لأنه أصل الأصول ودعامته الأولى , فقد علم الله سبحانه وتعالى قدر نبيه , فعرف الوجود بأسره بإسمه وبمبعثه وبمقامه وبمكانته , فالكون كله فى سرور دائم وفرح مطلق بنور الله وفرجه ونعمته على العالمين وحجته .
وقد درج سلفنا الصالح منذ القرن الرابع والخامس على الإحتفال بمولد الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه بإحياء ليلة المولد بشتى أنواع القربات من إطعام الطعام وتلاوة القرآن والأذكار وإنشاد الأشعار والمدائح فى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم , كما نص على ذلك غير واحد من المؤرخين  مثل الحافظين ابن الجوزى وابن كثير , والحافظ بن دحيه الأندلسى , والحافظ بن حجر , وخاتمة الحفاظ جلال الدين السيوطى رحمهم الله تعالى .
ونص جماهير العلماء سلفاً وخلفاً على مشروعية الإحتفال بالمولد النبوى الشريف , بل ألف فى إستحباب ذلك جماعه من العلماء والفقهاء , بينوا بالأدله الصحيحه إستحباب هذا العمل , بحيث لا يبقى لمن له عقل وفهم وفكر سليم إنكار ما سلكه سلفنا الصالح من الإحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف , وقد أطال ابن الحاج فى
( المدخل ) فى ذكرى المزايا المتعلقه بهذ الإحتفال , وذكر فى ذلك كلاماً مفيداً يشرح صدور المؤمنين , مع العلم أن ابن الحاج وضع كتابه ( المدخل ) فى ذم البدع المحدثه التى لا يتناولها دليل شرعى , وللإمام السيوطى فى ذلك رساله مستقله سماها ” حسن المقصد فى عمل المولد ” .
والإحتفال فى لغة العرب : من حفل اللبن فى الضرع يحفل حفلاً وحفلاً وتحفلّل وإحتفل : إجتمع , وحفل القوم من باب ضرب وإحتفلوا : إجتمعوا وإحتشدوا . وعنده حفل من الناس : أى جمع , وهو فى الأصل مصدر , ومحفل القوم ومحتفلهم : مجتمعهم , وحفله : جلاه ,فتحفل واحتفل , وحفل كذا : بالى به , ويقال : لا تحفل به .
وأما الإحتفال بالمعنى المقصود فى هذا المقام , فهو لا يختلف كثيراً عن معناه فى اللغه , إذا المراد من الإحتفال بذكرى المولد النبوى هو تجمع الناس على الذكر , والإنشاد فى مدحه والثناء عليه صلى الله عليه وآله وسلّم , وإطعام الطعام صدقه لله , إعلاناً لمحبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم , وإعلاناً لفرحنا بيوم مجيئه الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم .
ويدخل فى ذلك ما إعتاده الناس من شراء الحلوى والتهادى بها فى المولد الشريف , فإن التهادى أمر مطلوب فى ذاته , لم يقم دليل على المنع منه أوإباحته فى وقت دون وقت , فإذا إنضمت إلى ذلك المقاصد الصالحه الأخرى كإدخال السرور على أهل البيت وصلة الأرحام فإنه يصبح مستحباً مندوباً إليه , فإذا كان ذلك تعبيراً عن الفرح بمولد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم كان ذلك أشد مشروعيه وندباً وإستحباباً , لأن للوسائل أحكام المقاصد , والقول بتحريمه أوالمنع منه حينئذ ضرب من التنطع المذموم .
ومما يلتبس على بعضهم دعوى خلو القرون الأولى الفاضله من أمثال هذه الإحتفالات , ولو سلم هذا – لعمر الحق – فإنه لا يكون مسوغاً لمنعها , لأنه لا يشك عاقل فى فرحهم – رضى الله عنهم به صلى الله عليه وآله وسلّم , ولكن للفرح آساليب شتى فى التعبير عنه وفى إظهاره , ولا حرج فى الأساليب والمسالك , لأنها ليست عباده فى ذاتها , فالفرح به صلى الله عليه وآله وسلّم عباده وأى عباده , والتعبير عن هذا الفرح إنما هو وسيله مباحه , ولكل فيها وجهة هو موليها .
على أنه قد ورد فى السنه النبويه ما يدل على إحتفال الصحابه الكرام بالنبى صلى الله عليه وآله وسلّم مع إقراره لذلك وإذنه فيه , فعن بريده الأسلمى رضى الله عنه قال : خرج رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلّم فى بعض مغازيه , فلما إنصرف جاءت جاريه سوداء فقال : يا رسول الله , إنى كنت قد نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى , فقال لها رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلّم : ” إن كنت نذرت فإضربى , وإلا فلا ” رواه الإمام أحمد والترمزى وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب .فإذا كان الضرب بالدف إعلاناً للفرح بقدوم النبى  صلى الله عليه وآله وسلّم من الغزو أمراً مشروعاً أقره سيدنا النبى صلى الله عليه وآله وسلّم وأمر بالوفاء بنذره , فإن إعلان الفرح بقدومه صلى الله عليه وآله وسلّم  إلى الدنيا – بالدف أوغيره من مظاهر الفرح المباحه فى نفسها – أكثر مشروعيه وأعظم إستحباباً
وإذا كان الله تعالى يخفف عن أبى لهب – وهو من هو كفراً وعناداً ومحاربه لله ورسوله – بفرحه بمولد خير البشر بأن يجعله يشرب من نقره من كفه كل يوم إثنين فى النار , لأنه أعتق مولاته ثويبه لما بشرته بميلاده الشريف صلى الله عليه وآله وسلّم كما جاء فى صحيح البخارى , فما بالكم بجزاء الرب لفرح المؤمنين لميلاده وسطوع نوره على الكون ! .
وقد سن لنا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلّم بنفسه الشريفه جنس الشكر لله تعالى على ميلاده الشريف , فقد صح عنه أنه كان يصوم يوم الإثنين ويقول : ” ذلك يوم ولدت فيه ” رواه مسلم من حديث أبى قتاده رضى الله عنه , فهو شكر منه عليه الصلاة والسلام على منة الله تعالى عليه وعلى الأمه بذاته الشريفه , فالأولى بالأمه الإحتفاء به صلى الله عليه وآله وسلّم بشكر الله على منته ومنحته المصطفويه بكل أنواع الشكر , ومنها الإطعام والمديح والإجتماع للذكر والصيام والقيام وغير ذلك , – وكل ماعون ينضح بمافيه . وقد نقل الصالحى فى ديوانه الحافل فى السيره النبويه ” سبل الهدى والرشاد فى هدى خير العباد ” عن بعض صالحى زمانه : أنه رأى النبى صلى الله عليه وآله وسلّم فى منامه , فشكى إليه أن بعض من ينتسب إلى العلم يقول ببدعية الإحتفال بالمولد الشريف , فقال له النبى  صلى الله عليه وآله وسلّم ” من فرح بنا فرحنا به ” .
وكذلك الحكم فى الإحتفال بموالد آل البيت وأولياء الله الصالحين وإحياء ذكراهم بأنواع القرب المختلفه , فإن ذلك أمر مرغب فيه شرعاً , لما فى ذلك من التأسى بهم والسير على طريقتهم , وقد ورد الأمر الشرعى بتذكر الأنبياء والصالحين فقال تعالى : ( وأذكر فى الكتاب إبراهيم ) ” مريم : 41 ” ( وإذكر فى الكتاب موسى ) ” مريم : 51 ” وهذا الأمر لا يختص بالأنبياء , بل يدخل فيه الصالحون أيضاً , حيث يقول تعالى : ( وإذكر فى الكتاب مريم ) ” مريم : 16 ” إذ من المقرر عند المحققين أن مريم عليها السلام صديقه لا نبيه , كما ورد الأمر الشرعى أيضاً بالتذكير بأيام الله تعالى فى قوله سبحانه وتعالى : ( وذكرهم بأيام الله ) ” إبراهيم : 5 ” ومن أيام الله تعالى أيام الميلاد وأيام النصر , ولذلك كان النبى صلى الله عليه وآله وسلّم يصوم يوم الأثنين من كل أسبوع شكراً لله تعالى على نعمه إيجاده وإحتفالاً بيوم ميلاده كما سبق فى حديث أبى قتاده الأنصارى فى صحيح مسلم , كما كان يصوم يوم عاشوراء ويأمر أصحابه بصيامه شكراً لله تعالى وفرحاً وإحتفالاً بنجاة سيدنا موسى عليه السلام , وقد كرم الله تعالى يوم الولاده فى كتابه وعلى لسان أنبياؤه فقال سبحانه : ( وسلام عليه يوم ولد ) ” مريم : 15 ” وقال جل شأنه على لسان السيد المسيح عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم : ( والسلام على يوم ولدت ) ” مريم : 33 ” , وذلك أن يوم الميلاد حصلت فيه نعمة الإيجاد , وهى سبب لحصول كل نعمه تنال الإنسان بعد ذلك , فكان تذكره والتذكير به باباً لشكر نعم الله تعالى على الناس : فلا بأس من تحديد أيام معينه يحتفل فيها بذكرى أولياء الله الصالحين , ولا يقدح فى هذه المشروعيه ما قد يحدث فى بعض هذه المواسم من أمور محرمه , بل تقام هذه المناسبات مع إنكار ما قد يكتنفها من منكرات , وينبه أصحابها إلى مخالفة هذه المنكرات للمقصد الأساسى الذى أقيمت من أجله هذه المناسبات الشريفه
 
والله سبحانه وتعالى أعلم
أمانة الفتوى
دار الإفتاء المصريه