العلماء والعامة
صوت الأمة العدد 99
21/10/2002
كان ثلاثة من الشيوخ في مركب صغيرة يقودها صياد فقير متواضع في عرض البحر .. سأله الشيخ الأول: هل تفهم في الشريعة ؟ .. فأجاب الصياد بالنفي .. فقال له: لقد فقدت ثلث عمرك وسأله الشيخ الثاني: هل تعرف في الفقه ؟ .. فأجاب بالنفي .. فقال له: لقد فقدت ثلث عمرك .. وسأله الشيخ الثالث: هل تعرف في الاجتهاد ؟ .. فأجاب بالنفي… ولم تمر عدة دقائق حتى هبت عاصفة هوجاء كادت تغرق المركب .. فسأل الصياد الشيوخ الثلاثة .. هل تعرفون العوم؟ فأجابوا بالنفي .. فقال لهم: لقد فقدتم كل أعماركم. ربما كانت خفة الظل تشرح لنا بسهولة ما لا تقدر عليه أعقد الكتابات والتفسيرات فاقدة المرونة .. إن العلماء الثلاثة الذين كانوا في عرض البحر لم يترفقوا بالصياد الفقير المتواضع التفكير الذي ليس له في العير ولا النفير .. منحهم الله نعمة المعرفة فلم يترفقوا بغيرهم .
وورد في المعجم الاوسط الجزء (10) ص(205) :
9445 – حدثنا يعقوب بن إسحاق المخرمي نا سعيد بن سليمان النشيطي نا جرير بن حازم عن حرملة بن عمران المصري عن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال أُدخلت على عائشة فقالت ممن أنت قلت من أهل مصر فقالت كيف وجدتم بن خديج في غزاتكم هذه قلت وجدناه خير أمير كلما مات لرجل منا فرس أعطاه فرسا فقالت سمعت رسول الله ^ يقول اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن شق عليهم فاشقق عليه ”
إن المبصر يجب أن يترفق بالأعمى .. والقوي يجب أن يترفق بالمعدم .. والعالم يجب أن يترفق بالإنسان البسيط .. العادي .. الذي ينتظر منهم الرحمة .. لا أن يضيع منهم في الزحمة زحمة الاجتهادات والتعقيدات .. يقول سبحانه وتعالى: [ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذَىَ ] (263البقرة). إن بعض الفتاوى تسد أبواب الرحمة في وجه الناس .
وورد فى صحيح مسلم الجزء(4) ص(1813) :
78 – ( 2327 ) حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت :ما خُيِّرَ رسول الله ^ بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه.
بينما كان باب رسول الله ^ مفتوحا للكفار .. وحجة العلماء دائما هي أنهم يخشون على الدين من العامة فيميلون إلى التشدد .. وهي خشية تعطيهم مبررا لعدم إضافة معلومة ما .. إذا كانوا يملكونها .. يقولون العامة لن يفهموها .. وبهذا التبرير يضعون حاجزا عريضا بينهم وبين الناس .. مع أن المفروض عليهم رفع مستوى العامة .. العالم يجب أن يضيف إلى العامة إذا كان عنده ما يضيف .. أو يقول: لا أدري .. إذا لم يفض عليه بشيء يقول: لا أدري .. “ومن قال لا أدري فقد أفتى” . وقد كثر في الآونة الأخيرة رمي العامة بالشرك أو الكفر أو البدعة .. وهي تُهم لا يسهُل رمي الناس بها ..
وكما ورد في الحديث الشريف فى صحيح مسلم الجزء(4) ص(1795) :
30 – ( 2296 ) حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أن رسول الله ^ خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فَرَطٌ لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها .
وربما كان الوصف الأدق هو الجهل .. جهل العامة وهي مسئولية العلماء .. فلو كان الإنسان جاهلا ويريد أن يتعلم فقد برء من هذه الصفة .. ولو كان جاهلا ولا يريد أن يتعلم ويدعي أنه يعلم وينكر على من يعلم أنه يعلم فهو الجاهل قياسا على أبي جهل .. فقد كان أبو جهل لا يعلم ويدعي أنه يعلم ولا يريد أن يفتح أذنيه ليعرف ويمنع غيره من العلم ويتطاول على رسول الله ^ الذي يعرف ويعلم. لكن حتى صفة الجهل لا يجوز أن نطلقها بسهولة على العامة .. لأن الله أعفى من لا يعلم .. وأعفى من لا يستطيع .. ولم يؤاخذ عبده إلا إذا اجتمع لديه العلم والاستطاعة .. أو المعرفة والقدرة أما من لا يعلم ويريد أن يعلم فيسمى طالب علم .
وهنا بالضبط يأتي دور العلماء .. إن الذين لا يعلمون هم خامة العلماء .. الجاهل: “مجازا” خامة العالم .. خامة صنعته ومهمته ودون هذه الخامة لا صنعة ولا وظيفة ولا دور .. تماما مثل قطعة الحديد التي هي خامة الحداد .. يشكلها كما يشاء .. وحسب ما فتح الله عليه من موهبة وخبرة .. ومثل قطعة الخشب التي هي خامة النجار يصنع منها ما يشاء .. وحسب ما منحه الله من قدرة على ذلك .. لم نر حدادا استغنى عن قطعة حديد لأنها معوجة .. ولم نر نجارا استغنى عن قطعة خشب لأنها ليست مستوية .. على العكس .. يتحمس الصانع الماهر لكل ما يصعب على غيره .. إن مهارته تبرز في هذه الحالة أكثر .. وبراعته وتألقه أيضا . العامة في يد العلماء كالخامات في يد الصناع .. وجودهم على ما هم عليه من جهل .. مثل وجود حديد بلا حداد .. أو خشب بلا نجار .. دلالة على ضعف الصنعة .. وقلة الخبرة .. وصعوبة المهمة على أصحابها .. وجود جهلة في ظل علماء مسألة ليست في صالح العلماء .. مهما كانت درجة الجهل .. ومهما كانت عتمته .. هؤلاء العامة لو تركوا على ما هم عليه دون أن تجري لهم عملية تنوير وتشكيل وتعليم دلالة على أن دور العلماء ليس كافيا .. ومهمتهم ليست كاملة .. ورسالتهم ليست مقنعة .. وحجة العلماء أن ما لديهم من علم يضر العامة مع أن مهمة العلماء الأساسية هي نقل العامة إلى الخاصة .. وهذا في قول الله سبحانه وتعالى: [نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ] (76يوسف) .. لو ترك الجهاز الإداري دون رفع كفاءته والتبصير بما يطرأ عليه من مستجدات ولوائح جديدة لأصبح هذا الجهاز في حكم العامة .. ولكن إذا ما رفعت كفاءته ليتمشى مع المستحدثات والتعديلات سيكون هذا الجهاز في حكم الخاصة . وهناك شئ غريب .. قد ينطبق على الخاصة كما ينطبق على العامة ” .. إذا سمع إنسان معلومة لم يكن يعرفها من قبل فإنه سيرفضها لا لشئ إلا لأنه لم يسمع بها من قبل..
فماذا يضير الإنسان لو أضاف إلى معلوماته معلومة جديدة ؟ .. إن من بقي علمه على ما هو عليه .. هو الخاسر .. ومن تساوى يوماه في العلم فهو خاسر . ولا توجد معلومة حرام حتى لو كانت عن شيء حرام .. لو علمنا أن الخمر يضر الكبد .. هذه معلومة حلال رغم أنها عن شيء حرام .. لو علمنا أن الزنا قد يزيد من فرصة الإصابة بالأمراض السرية .. هذه معلومة حلال رغم أنها عن شئ حرام .. ولولا العامة لما كان هناك فائدة من العلماء .
ففي صحيح البخارى – الجزء (3) ، ص(346-347)
5027 – حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني علقمة بن مرثد سمعت سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه عن النبي ^ قال:(خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) .
.. ولو ظل العامة عامة والخاصة خاصة فإن رصيد الأمة من العلم والمعرفة لن يزيد .. ستقف محلك سر.. بل إن ثروتها من الحكمة ستتناقص كلما فقدنا عالما من العلماء .. عندئذ لا يطلق على السلف سلف .. فلن يكون له خلف .. وصحابة رسول الله ^ قبل الرسالة السماوية كانوا عامة ربما أقل من العامة .. لكن الرسول الكريم ^ لم يتركهم على حالهم بل نقلهم من خانة العوام إلى خانة الخواص .. وهذا سبب تقدم الأمة الإسلامية .. نقل العامة إلى الخاصة في عملية مستمرة.. حيوية .. متصلة .. ومتدفقة . إن مسئولية من يعرف هي تبصير من لا يعرف وليس تركه على ما هو عليه .. مسئوليته رفع العتمة عنه .. بالنصيحة .. بالحكمة .. بالموعظة الحسنة .. دون خوف على الدين من أن يعرف العامة ما فيه .. يقول سبحانه وتعالى: [ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ] (143البقرة). لو أن العلماء عرفوا كل شيء بسهولة للعامة فإنهم يكونون قد أدوا ما عليهم .. ولو لم يفعلوا لحاسبهم الله على تقصيرهم .. لو أن العلماء عرفوا كل شيء بسهولة لاسترحنا من كثرة المغالطات .. ولأرحنا العامة من تفسيرات مغرضة .. ولأرتفع مستوى العامة إلى مستوى الخاصة .. واطمأن كل مسلم على دينه وإيمانه إن طالب العلم أو طالب البركة إنما هو يسعى للحصول على ما أودعه الله من علمه وخيره وبركته فيمن أودع .
وكما ورد فى صحيح البخارى الجزء(1) ص(81-82) :
188- وقال أبو موسى دعا النبي ^ بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال لهما (اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما ) .
وكما ورد فى صحيح البخارى الجزء(1) ص(82) :
189 – حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني محمود بن الربيع قال وهو الذي مج رسول الله ^ في وجهه وهو غلام من بئرهم . وقال عروة عن المسور وغيره يُصدِّقُ كل واحد منهما صاحبه
وإذا توضأ النبي ^ كادوا يقتتلون على وضوئه .
ولا يمكن أن يكون هناك عالم ويعتقد أنه عالم .. فمثل هذا الاعتقاد يحرمه من المزيد .. ولا يمكن أن نقبل بهجوم العلماء على العامة .. فعلى العلماء تبصير العامة لا مهاجمتهم .. ولا رميهم .. ولا تجريحهم .. ولا الاستهزاء بعقولهم .. خاصة وأنه لا يوجد عالم مطلق العلم .. فالعالم في فرع من فروع المعرفة هو جاهل بباقي فروعها .. وفي الحقيقة فإن جهلنا أكثر من علمنا .. نسبة الجهل فينا أكثر من نسبة العلم .. والعلم إذا خلا من الأغراض يخرج من العالم سليما كالعسل المصفي .. أو اللبن الخالص .. أما شوائب العلم فهي الأغراض الخاصة .. فإذا ما أقحم العالم أغراضه أيا ما كانت فقد دس السم في العسل. أيها العلماء ترفقوا بالعامة .. لا ترموهم بالجهل .. فجهلهم دلالة على تقصيركم .. لا تخافوا على الدين منهم .. فالله خير حافظا للناس وللإيمان .. ارحموهم .. لا تحصروهم بفتاوى تسد أبواب الرحمة في وجوههم .. لا تتصورا أنكم فقط العلماء.. تذكروا أن ما فينا من علم أقل مما فينا من جهل
ولا حول ولا قوة إلا بالله
في تصنيف : لحظة نور في يوليو 14th, 2010