شمعة في نهاية نفق مظلم
جريدة الأهرام
السبت : 24 من شوال 1423هـ – 28 ديسمبر (كانون أول) 2002
السبت : 24 من شوال 1423هـ – 28 ديسمبر (كانون أول) 2002
كان ثلاثة من الشيوخ في قارب صغير متهالك يقوده في عرض البحر صياد صغير متواضع الحال.. سأل الشيخ الأول الصياد: هل تفهم في الشريعة ؟.. فأجاب الصياد بالنفي.. فقال له:لقد فقدت ثلث عمرك.. وسأله الشيخ الثاني: هل تفهم في الفقه؟.. فأجاب الصياد بالنفي.. فقال له: لقد فقدت ثلث عمرك.. وسأله الشيخ الثالث: هل تفهم في الاجتهاد؟ فأجاب الصياد بالنفي .. فقال له: لقد فقدت ثلث عمرك.. ولم تمر عدة دقائق حتى هبت عاصفة شرسة قلبت البحر رأسا علي عقب.. فسأل الصياد الشيوخ: هل تعرفون العوم؟.. فأجابوا بالنفي.. فقال لهم لقد فقدتم كل أعماركم.
ربما شرحت خفة الظل بسهولة ما لا تقدر عليه أعقد الكتابات والتفسيرات فاقدة المرونة.. إن الشيوخ الثلاثة لم يترفقوا بالصياد البسيط في كل شئ (من الثياب إلي التفكير) وهو رجل علي باب الله ليس له في العير ولا النفير.. لقد منحهم الله نعمة المعرفة فلم يترفقوا بغيرهم.. إن المبصر يجب أن يترفق بالأعمى.. والقوى يجب أن يترفق بالضعيف.. والغنى يجب أن يترفق بالفقير.. والعالم يجب أن يترفق بالإنسان البسيط.. العادي. الذي ينتظر منه الرحمة لا أن يضع منه في الزحمة.. زحمة التفسيرات والاجتهادات والتعقيدات والكتابات والفضائيات.
إن الثروة العقارية تنهار.. والثروة المالية تضيع.. والثروة الصحية تضعف.. والثروة العقلية تتبدد.. أما الثروة الروحية.. أو الثروة السماوية.. فهي تبقى.. وتنمو.. وتكبر.. هي التي تغذي المشاعر بطعم الإيمان.. فتكون الحكمة.. والرحمة.. والموعظة الحسنة.. يقول شاعر فارسي قديم: (( فلتتأمل هذا الخان البالى.. يتولد علي مدخله الليل والنهار.. كيف تعاقب عليه سلطان بعد سلطان.. بكل ما له من أبهة.. عاش به ساعته الموعودة.. ثم مضى إلي غايته.. إن الباب الذي دخلنا منه هو الباب الذي سنخرج منه.. ولو كنا قد جئنا كالماء فإننا سنمضى كالريح )).. وبين المجئ والمضى يتلخص الإنسان في كلمة واحدة: طيب.. شرس.. متسامح..عنيد مجرم.. لص.. شريف.. منحرف.. مستقيم.. كلمة واحدة يختارها الإنسان دستور لحياته.. يدفع ثمنها.. ويجنى ثمارها.. ويحملها علي ظهره في الدنيا والآخرة.. يعيش بها علي الأرض ويحاسب عليها في السماء.
لكن .. البساطة في التفكير والتفسير لا نجدها في بعض الذين يتحدثون في الدين وما أكثرهم.. وما أعقدهم.. وما أصعبهم.. وما أغربهم.. فكلما شرحوا.. وتكلموا.. وأفرطوا كلماانتشرت اتهامات الترهيب والتجريم حتى بتنا جميعا في النار.. حرموا علينا عيشتنا.. جففوا منابع التسامح.. تركوا كبائر الحياة مثل الفاشية والديكتاتورية والأنانية والأمية وخراب الذمم المالية وأصول الخلافة.. وتحدثوا عن الفروع.
لقد نزل الإسلام علي مجتمع بدوي متخلف متناحر، موصوم بالرق والعبودية.. يحتقر المرأة ويواريها التراب.. ويفرق بين الناس تفرقة طبقية.. فكيف استقبلوه وتقبلوه وفرحوا به وتعاملوا معه بسهولة ويسر، بينما فشل بعضنا في ذلك برغم كل ما نملك من ثقافة وفهم ووعي وقدرة علي بناء جسور التفاهم؟.. إن سهولة التعامل مع الإسلام في مجتمعه الأول، تعنى أنه سهل .. فما الذي صعبه علينا؟
أتصور أن الإجابة المرضية للجميع، هي أننا نسينا قواعد الدين وأعمدته الأساسية وانشغلنا بطبقة البياض الأخيرة علي الجدران.. تركنا الخرسانة المسلحة ورحنا نتجادل في لون الطلاء وخصائصه.. انشغلنا بأوراق الشجر وتركنا الجذور التي تقوم عليها وتمدها بالحياة.. وعندما تغيب القواعد والأسس والأصول تغيب اللغة المشتركة.. وعندما تغيب اللغة المشتركة تفلس العلاقات بين البشر.. وتنكسر جسور الحوار بينهم.. إن كل تناقضات العالم تناقضات لغوية.. نحن نسمي عمليات الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، عمليات استشهادية، بينما يسميها العدو علي الجانب الآخر، عمليات إرهابية.. بعض الدول تنظر إلي علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية من منظور الصداقة، بينما هي تنظر إليها من منظور التبعية.. وعندما نقطف زهرة ونقدمها إلي من نحب نتصور أنفسنا رومانسيين، بينما تنظر الزهرة إلينا علي أننا قتلة اغتصبنا حقها في الحياة.. وحكمنا عليها بالإعدام.. ولو قلنا كلمة قرش لرجل بنك لأختلف مفهومه عما لو قلناها لصياد سمك أو لو قلناها لتاجر مخدرات.. إن القرش عند الأول عملة، وعند الثاني نوع سمك، وعند الثالث نوع من الموازين.. وما لم نتفق علي تعريف (( القرش)) الذي نقصده لوجدنا أنفسنا في حالة عشوائية متخاصمة.. وما لم نتفق علي معاني الكلمات وتركنا لكل منا يحددها كما يشاء، نكون كمن يحدد عرض قضبان القطار علي هواه.. يوسعها أحيانا.. ويضيقها أحيانا..وفي كل الحالات لن يمر القطار.. لن يسير عليها.
إننا لا يمكن أن نفهم العالم دون لغة مشتركة بيننا وبينه.. خاصة في هذه الأيام الصعبة الحرجة التي يصر العالم علي أن يرانا فيها من وراء نظارة سوداء.. معتمة.. تفوح منها رائحة الإرهاب والشياط.. إن سوء الصورة حفز قوى الشر ضدنا.. فكان ما كان في أفغانستان.. والبقية تأتي في العراق والسودان وإيران.. لقد أعطينا بما فسرنا وبما أفتينا الفرصة لتدميرنا وسط تشجيع العالم وتهليله.. وفي جزء مما يجري ويحدث لا نلوم إلا أنفسنا.. لكن.. قبل أن نتفاهم مع العالم علينا أن نتفاهم مع بعضنا بعضا ولا يمكن أن نتفاهم دون لغة دينية واحدة بيننا.. لغة تكون فيها القواعد واضحة.. والتعاريف ثابتة.. والرحمة واسعة.. لقدإ نكسرت اللغة بيننا.. فراح كل فريق منا يتحدث علي هواه.. ويفتى علي هواه.. بدلا من أن نرتدي الثوب الذي فصله لنا ا الدين.. وضعنا الدين في الثوب الذي فصله كل منا كما يشاء.
إن هنالك لغة مشتركة بين الموسيقيين يسهل قياس النغمة عليها.. وهنالك لغة مشتركة بين الأطباء يسهل قياس العلاج عليها.. وهنالك لغة مشتركة بين لاعبي الكرة يسهل قياس الجزاءات عليها.. لكن ليس هنالك لغة مشتركة بين علماء الدين يسهل قياس الفتاوى عليها..
لقد خلقنا الله شعوبا وقبائل لنتعارف.. ليكون أفضلنا هو أكثرنا تقوى.. والتعارف هو اللغة المشتركة التي لو غابت لحق قول الله تعالي:(( الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون)).. إن أسس الدين موجودة في القرآن علي سبيل الإجمال.. وموجودة في السنة علي سبيل التفصيل.. لكن غياب اللغة المشتركة يجعل كل شخص يتبع هواه.. ثم يسعى جاهدا لكي نمشى وراءه باعتبار هو الصواب و هو سبب التفرق والتشرذم والتعصب والتطرف، وربما التخلف الذي نحن فيه.. هذا هو سبب الحالة التي أغرت القوى العظمى باستساغة لحمنا واستباحة أرضنا واسترقاق شعوبنا.. وهى حالة ننشغل فيها بالصغائر ونعتبرها كبائر..
منشغلون بالمظهر لا بالجوهر.. لذلك ليس غريبا أن يزداد كلام بعضنا عن الدين في الوقت نفسه الذي تزداد فيه الأمية والبطالة والسرقة وقتل الأمهات من أجل سيجارة حشيش.
إن التدين الشكلي ليس دليلا علي سلامة الأخلاق..هو دليل علي الفهم الخاطئ للتدين.. والفهم الخاطىء للتدين سببه اختفاء القواعد السليمة له.. واختفاء القواعد في الهندسة جعلت العامل مهندسا.. واختفاء القواعد في الدين جعلت الجاهل عالما وفقيها.. فكان كل ما نعانى منه من فوضى في الفتوى وتسرع في التفسير وسهولة في التكفير وتدخل بين خصائص البشر والحق الإلهي.
يقول صلي الله عليه وسلم:(( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)).. إن هذا الحديث الشريف قد وجد من يستخدمه استخداما خاطئا.. ربما بحسن نية.. ربما بعدم التعمق في كلماته.. ولكن.. النتيجة أننا دفعنا ثمنا غاليا من القتل والذبح وترويع الآمنين.. وهو ما فعلته الجماعات المتشددة التي كلفتنا بما فعلت مليارات من الجنيهات بالإضافة إلي تشويه سمعة وطن اشتهر عنه الأمن والطمأنينة.. إن الحديث نموذج للفتوى بغير علم والتصرف بغير وعى.. والاندفاع بغير تبصر.
إن صيغة الأمر في الحديث الشريف موجهة إلي ((منكم)).. و ((منكم)) هنا تعنى التخصص.. من رأى منكم مريضا فليعالجه.. أمر للأطباء.. من رأى منكم سيارة مسرعة فليحرر لها مخالفة.. أمر لضباط المرور.. إن شرط تنفيذ الأمر أن يكون الشخص قادر علي تغير المنكر بوسائله الثلاث ( اليد واللسان والقلب ).. إن لم يستطع بيده فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه.. قلبه هو لا قلب أحد غيره.. ويندر من الناحية العملية والفعلية أن نجد مثل هذا الشخص الذي يمتلك كل مقومات التغيير.. ومن ثم فإن(( منكم)) محصورة فيمن يمتلك هذه المقومات وليس كل من هب ودب.. كما كان يحدث.. وقد درج الناس علي ترتيب قوة تغيير المنكر باليد ثم اللسان ثم القلب.. وكأن اليد أقوي من اللسان واللسان أقوي من القلب.. وهذا غير منطقي.. فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل.. والعمل إما باليد أو باللسان.. إذن القلب هو الأقوى.. ثم إنه منطقي أن تكون وسائل تغيير المنكر متدرجة من الأضعف إلي الأقوى وليس العكس.. لو فشل الأضعف في التغيير نلجأ إلي الأقوى.. ولو فشل الأقوى يأتي الأشد قوة.. كأن تقول: إن الجندي لم يحل المشكلة فلجأت إلي الضابط فلم يحلها فلجأت للقائد.. لكن ما الذي جعل الناس تستسهل هذا الترتيب.. لو عدنا إلي الحديث الشريف سنجد: (( من رأي منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)).. إن ذلك اسم إشارة يعود علي البعيد لا القريب.. يعود علي اليد وليس القلب.. لو كان النص (( وهذا أضعف الإيمان)) لكان القلب هو الأضعف.. فهذا يعود علي القريب.. إن القلب لو كان متصلا بالله وصاحب دعوة مستجابة فإنه لا بد أن يكون قويا ونافذا ومتجاوزا قوة اليد.
إن التفسير المتسرع لهذا الحديث كلفنا سنوات من الدم والرعب اشتعلت فيها عمليات الإرهاب وتنظيماته، وهي تتصور أنها تغير المنكر بيدها..بسلاحها.. ورصاصها.. ولو كانوا قد ترووا وفهموا واستوعبوا لما عشنا تلك السنوات السوداء.. وهنالك حديث شريف أخر وجد من يفسره علي هواه لتحريم الفنون الجميلة.. يقول صلي الله عليه وسلم:(( المصورون في النار)).. لقد وجد هذا الحديث الشريف من يسئ استخدامه لإظلام الحياة ولإخراجنا من العصر.. إن الكلمة كانت في البدء.. خلقها الله نورا فكان الإيمان به.. وخلقها حرفا فكان الشعر والنثر.. وخلقها نغمة فكانت الموسيقى.. وخلقها لونا فكانت اللوحة التشكيلية.. إن كل ما منحه الله للناس من مواهب ومشاعر يصعب أن يكون حراما.. إنها خلاصة الإبداع البشري صاغه الضمير الإنساني ليعلو بالبشر علي باقي المخلوقات والكائنات والمفردات.
إن المصورين الذين في النار هم المصورون الذين يعتقدون أن لله صورة ولو في قلوبهم يعبدونه عليها.. مثل الذين يعتقد ون أن الله سبحانه وتعالي يشبه البقر فيقد سونهآ أو مثل الذين يعتقدون أن الله يشبه الشمس فيرسمون شمسا علي أنها الله .. أو مثل الذين يعتقدون أن الله يشبه نجما أو ثعبانا أو قمرا أو غيره من المخلوقات.. لقد اعتقدوا أن الله يشبه هذه المخلوقات فعبد وها.. إن التصوير في هذه الحالة حرام.. ويلقي بصاحبه في النار..فهؤلاء نسوا أن الله سبحانه وتعالي منزه عن الكم والكيف والأ ين والند والضد والشبيه والمثيل والشريك والزوجة والولد، وكل ما خطر ببالك هالك، والله سبحانه فوق ذلك.
وعندما نزل قول الله تعالي:(( وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه)) خط النبي صلي الله عليه وسلم خطا مستقيما، ثم خط علي يساره ستة خطوط تشبه جريد النخل ليوضح المعني.. وهو ما يعنى أن الرسول الكريم استخدم الرسم التوضيحي الذي لا يمكن أن يكون حراما.. فنحن نستخدمه في رسم الخطط العسكرية والخرائط الجيولوجية وكتب الفيزياء والأحياء.. لكن.. وجدنا من يأتي إلينا من الصحراء ليقول لنا: إن رسوم الأحياء حرام.. وطلب من التلاميذ أن يشطبوا عليها بعد أن يرسموها في واجباتهم المدرسية.. وكان سيدنا سليمان وهو نبي وخليفة ورسول يأمر الجن بصناعة التماثيل.. يقول سبحانه وتعالي(( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات)).. إن الحرام فقط هو اقتناء التماثيل واللوحات بغرض العبادة.
إن إبراهيم عليه السلام، عندما كسر التماثيل بيده لم يمنع عبادتها.. بل إن الذين كانوا يعبد ونها أعادوا صنعها بمادة أشد صلابة وأكثر زينة.. أما النبي عليه السلام فإنه عندما دخل مكة لم يكسر الأصنام، بل نزع احترامها من قلوب الناس.غير. قلوب الناس نحوها فلم يعد الذين كانوا يعبدونها يحترمونها فماتت وهي واقفة في مكانها.. لم يعد الناس يرونها قوية مؤثرة مقدسة.. فالنية محلها القلب.. وما دون ذلك لا قيمة له.
لقد سبقت رحمة الله غضبه.. ودعانا الرسول إلي أن نيسر ولا نعسر.. أن نبشر ولا ننفر.. فمن ييسر يجد اليسر ومن يعسر يجد العسر.. ولو كان الرسول هو المثل الأعلى، فلماذا نتخذ من أنفسنا أمثالا غيره؟.. وصفات الإسلام هي صفات الرسول: العدل.. السماحة.. البساطة.. الرحمة.. الكرم.. لقد كان عليه الصلاة والسلام قرآنا يمشي.. فلماذا نقطع ما كان يصله؟.. لماذا نحرم ما كان يحلة ؟.. (( لو خلقتموهم لرحمتموهم)) .. إنها مسألة حياة أو موت أن نكف عن التفسيرات الضيقة المتعسفة الجاهلة المتسرعة للدين.. وكفانا ما جري لنا.. وما ينتظرنا
ربما شرحت خفة الظل بسهولة ما لا تقدر عليه أعقد الكتابات والتفسيرات فاقدة المرونة.. إن الشيوخ الثلاثة لم يترفقوا بالصياد البسيط في كل شئ (من الثياب إلي التفكير) وهو رجل علي باب الله ليس له في العير ولا النفير.. لقد منحهم الله نعمة المعرفة فلم يترفقوا بغيرهم.. إن المبصر يجب أن يترفق بالأعمى.. والقوى يجب أن يترفق بالضعيف.. والغنى يجب أن يترفق بالفقير.. والعالم يجب أن يترفق بالإنسان البسيط.. العادي. الذي ينتظر منه الرحمة لا أن يضع منه في الزحمة.. زحمة التفسيرات والاجتهادات والتعقيدات والكتابات والفضائيات.
إن الثروة العقارية تنهار.. والثروة المالية تضيع.. والثروة الصحية تضعف.. والثروة العقلية تتبدد.. أما الثروة الروحية.. أو الثروة السماوية.. فهي تبقى.. وتنمو.. وتكبر.. هي التي تغذي المشاعر بطعم الإيمان.. فتكون الحكمة.. والرحمة.. والموعظة الحسنة.. يقول شاعر فارسي قديم: (( فلتتأمل هذا الخان البالى.. يتولد علي مدخله الليل والنهار.. كيف تعاقب عليه سلطان بعد سلطان.. بكل ما له من أبهة.. عاش به ساعته الموعودة.. ثم مضى إلي غايته.. إن الباب الذي دخلنا منه هو الباب الذي سنخرج منه.. ولو كنا قد جئنا كالماء فإننا سنمضى كالريح )).. وبين المجئ والمضى يتلخص الإنسان في كلمة واحدة: طيب.. شرس.. متسامح..عنيد مجرم.. لص.. شريف.. منحرف.. مستقيم.. كلمة واحدة يختارها الإنسان دستور لحياته.. يدفع ثمنها.. ويجنى ثمارها.. ويحملها علي ظهره في الدنيا والآخرة.. يعيش بها علي الأرض ويحاسب عليها في السماء.
لكن .. البساطة في التفكير والتفسير لا نجدها في بعض الذين يتحدثون في الدين وما أكثرهم.. وما أعقدهم.. وما أصعبهم.. وما أغربهم.. فكلما شرحوا.. وتكلموا.. وأفرطوا كلماانتشرت اتهامات الترهيب والتجريم حتى بتنا جميعا في النار.. حرموا علينا عيشتنا.. جففوا منابع التسامح.. تركوا كبائر الحياة مثل الفاشية والديكتاتورية والأنانية والأمية وخراب الذمم المالية وأصول الخلافة.. وتحدثوا عن الفروع.
لقد نزل الإسلام علي مجتمع بدوي متخلف متناحر، موصوم بالرق والعبودية.. يحتقر المرأة ويواريها التراب.. ويفرق بين الناس تفرقة طبقية.. فكيف استقبلوه وتقبلوه وفرحوا به وتعاملوا معه بسهولة ويسر، بينما فشل بعضنا في ذلك برغم كل ما نملك من ثقافة وفهم ووعي وقدرة علي بناء جسور التفاهم؟.. إن سهولة التعامل مع الإسلام في مجتمعه الأول، تعنى أنه سهل .. فما الذي صعبه علينا؟
أتصور أن الإجابة المرضية للجميع، هي أننا نسينا قواعد الدين وأعمدته الأساسية وانشغلنا بطبقة البياض الأخيرة علي الجدران.. تركنا الخرسانة المسلحة ورحنا نتجادل في لون الطلاء وخصائصه.. انشغلنا بأوراق الشجر وتركنا الجذور التي تقوم عليها وتمدها بالحياة.. وعندما تغيب القواعد والأسس والأصول تغيب اللغة المشتركة.. وعندما تغيب اللغة المشتركة تفلس العلاقات بين البشر.. وتنكسر جسور الحوار بينهم.. إن كل تناقضات العالم تناقضات لغوية.. نحن نسمي عمليات الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، عمليات استشهادية، بينما يسميها العدو علي الجانب الآخر، عمليات إرهابية.. بعض الدول تنظر إلي علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية من منظور الصداقة، بينما هي تنظر إليها من منظور التبعية.. وعندما نقطف زهرة ونقدمها إلي من نحب نتصور أنفسنا رومانسيين، بينما تنظر الزهرة إلينا علي أننا قتلة اغتصبنا حقها في الحياة.. وحكمنا عليها بالإعدام.. ولو قلنا كلمة قرش لرجل بنك لأختلف مفهومه عما لو قلناها لصياد سمك أو لو قلناها لتاجر مخدرات.. إن القرش عند الأول عملة، وعند الثاني نوع سمك، وعند الثالث نوع من الموازين.. وما لم نتفق علي تعريف (( القرش)) الذي نقصده لوجدنا أنفسنا في حالة عشوائية متخاصمة.. وما لم نتفق علي معاني الكلمات وتركنا لكل منا يحددها كما يشاء، نكون كمن يحدد عرض قضبان القطار علي هواه.. يوسعها أحيانا.. ويضيقها أحيانا..وفي كل الحالات لن يمر القطار.. لن يسير عليها.
إننا لا يمكن أن نفهم العالم دون لغة مشتركة بيننا وبينه.. خاصة في هذه الأيام الصعبة الحرجة التي يصر العالم علي أن يرانا فيها من وراء نظارة سوداء.. معتمة.. تفوح منها رائحة الإرهاب والشياط.. إن سوء الصورة حفز قوى الشر ضدنا.. فكان ما كان في أفغانستان.. والبقية تأتي في العراق والسودان وإيران.. لقد أعطينا بما فسرنا وبما أفتينا الفرصة لتدميرنا وسط تشجيع العالم وتهليله.. وفي جزء مما يجري ويحدث لا نلوم إلا أنفسنا.. لكن.. قبل أن نتفاهم مع العالم علينا أن نتفاهم مع بعضنا بعضا ولا يمكن أن نتفاهم دون لغة دينية واحدة بيننا.. لغة تكون فيها القواعد واضحة.. والتعاريف ثابتة.. والرحمة واسعة.. لقدإ نكسرت اللغة بيننا.. فراح كل فريق منا يتحدث علي هواه.. ويفتى علي هواه.. بدلا من أن نرتدي الثوب الذي فصله لنا ا الدين.. وضعنا الدين في الثوب الذي فصله كل منا كما يشاء.
إن هنالك لغة مشتركة بين الموسيقيين يسهل قياس النغمة عليها.. وهنالك لغة مشتركة بين الأطباء يسهل قياس العلاج عليها.. وهنالك لغة مشتركة بين لاعبي الكرة يسهل قياس الجزاءات عليها.. لكن ليس هنالك لغة مشتركة بين علماء الدين يسهل قياس الفتاوى عليها..
لقد خلقنا الله شعوبا وقبائل لنتعارف.. ليكون أفضلنا هو أكثرنا تقوى.. والتعارف هو اللغة المشتركة التي لو غابت لحق قول الله تعالي:(( الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون)).. إن أسس الدين موجودة في القرآن علي سبيل الإجمال.. وموجودة في السنة علي سبيل التفصيل.. لكن غياب اللغة المشتركة يجعل كل شخص يتبع هواه.. ثم يسعى جاهدا لكي نمشى وراءه باعتبار هو الصواب و هو سبب التفرق والتشرذم والتعصب والتطرف، وربما التخلف الذي نحن فيه.. هذا هو سبب الحالة التي أغرت القوى العظمى باستساغة لحمنا واستباحة أرضنا واسترقاق شعوبنا.. وهى حالة ننشغل فيها بالصغائر ونعتبرها كبائر..
منشغلون بالمظهر لا بالجوهر.. لذلك ليس غريبا أن يزداد كلام بعضنا عن الدين في الوقت نفسه الذي تزداد فيه الأمية والبطالة والسرقة وقتل الأمهات من أجل سيجارة حشيش.
إن التدين الشكلي ليس دليلا علي سلامة الأخلاق..هو دليل علي الفهم الخاطئ للتدين.. والفهم الخاطىء للتدين سببه اختفاء القواعد السليمة له.. واختفاء القواعد في الهندسة جعلت العامل مهندسا.. واختفاء القواعد في الدين جعلت الجاهل عالما وفقيها.. فكان كل ما نعانى منه من فوضى في الفتوى وتسرع في التفسير وسهولة في التكفير وتدخل بين خصائص البشر والحق الإلهي.
يقول صلي الله عليه وسلم:(( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)).. إن هذا الحديث الشريف قد وجد من يستخدمه استخداما خاطئا.. ربما بحسن نية.. ربما بعدم التعمق في كلماته.. ولكن.. النتيجة أننا دفعنا ثمنا غاليا من القتل والذبح وترويع الآمنين.. وهو ما فعلته الجماعات المتشددة التي كلفتنا بما فعلت مليارات من الجنيهات بالإضافة إلي تشويه سمعة وطن اشتهر عنه الأمن والطمأنينة.. إن الحديث نموذج للفتوى بغير علم والتصرف بغير وعى.. والاندفاع بغير تبصر.
إن صيغة الأمر في الحديث الشريف موجهة إلي ((منكم)).. و ((منكم)) هنا تعنى التخصص.. من رأى منكم مريضا فليعالجه.. أمر للأطباء.. من رأى منكم سيارة مسرعة فليحرر لها مخالفة.. أمر لضباط المرور.. إن شرط تنفيذ الأمر أن يكون الشخص قادر علي تغير المنكر بوسائله الثلاث ( اليد واللسان والقلب ).. إن لم يستطع بيده فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه.. قلبه هو لا قلب أحد غيره.. ويندر من الناحية العملية والفعلية أن نجد مثل هذا الشخص الذي يمتلك كل مقومات التغيير.. ومن ثم فإن(( منكم)) محصورة فيمن يمتلك هذه المقومات وليس كل من هب ودب.. كما كان يحدث.. وقد درج الناس علي ترتيب قوة تغيير المنكر باليد ثم اللسان ثم القلب.. وكأن اليد أقوي من اللسان واللسان أقوي من القلب.. وهذا غير منطقي.. فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل.. والعمل إما باليد أو باللسان.. إذن القلب هو الأقوى.. ثم إنه منطقي أن تكون وسائل تغيير المنكر متدرجة من الأضعف إلي الأقوى وليس العكس.. لو فشل الأضعف في التغيير نلجأ إلي الأقوى.. ولو فشل الأقوى يأتي الأشد قوة.. كأن تقول: إن الجندي لم يحل المشكلة فلجأت إلي الضابط فلم يحلها فلجأت للقائد.. لكن ما الذي جعل الناس تستسهل هذا الترتيب.. لو عدنا إلي الحديث الشريف سنجد: (( من رأي منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)).. إن ذلك اسم إشارة يعود علي البعيد لا القريب.. يعود علي اليد وليس القلب.. لو كان النص (( وهذا أضعف الإيمان)) لكان القلب هو الأضعف.. فهذا يعود علي القريب.. إن القلب لو كان متصلا بالله وصاحب دعوة مستجابة فإنه لا بد أن يكون قويا ونافذا ومتجاوزا قوة اليد.
إن التفسير المتسرع لهذا الحديث كلفنا سنوات من الدم والرعب اشتعلت فيها عمليات الإرهاب وتنظيماته، وهي تتصور أنها تغير المنكر بيدها..بسلاحها.. ورصاصها.. ولو كانوا قد ترووا وفهموا واستوعبوا لما عشنا تلك السنوات السوداء.. وهنالك حديث شريف أخر وجد من يفسره علي هواه لتحريم الفنون الجميلة.. يقول صلي الله عليه وسلم:(( المصورون في النار)).. لقد وجد هذا الحديث الشريف من يسئ استخدامه لإظلام الحياة ولإخراجنا من العصر.. إن الكلمة كانت في البدء.. خلقها الله نورا فكان الإيمان به.. وخلقها حرفا فكان الشعر والنثر.. وخلقها نغمة فكانت الموسيقى.. وخلقها لونا فكانت اللوحة التشكيلية.. إن كل ما منحه الله للناس من مواهب ومشاعر يصعب أن يكون حراما.. إنها خلاصة الإبداع البشري صاغه الضمير الإنساني ليعلو بالبشر علي باقي المخلوقات والكائنات والمفردات.
إن المصورين الذين في النار هم المصورون الذين يعتقدون أن لله صورة ولو في قلوبهم يعبدونه عليها.. مثل الذين يعتقد ون أن الله سبحانه وتعالي يشبه البقر فيقد سونهآ أو مثل الذين يعتقدون أن الله يشبه الشمس فيرسمون شمسا علي أنها الله .. أو مثل الذين يعتقدون أن الله يشبه نجما أو ثعبانا أو قمرا أو غيره من المخلوقات.. لقد اعتقدوا أن الله يشبه هذه المخلوقات فعبد وها.. إن التصوير في هذه الحالة حرام.. ويلقي بصاحبه في النار..فهؤلاء نسوا أن الله سبحانه وتعالي منزه عن الكم والكيف والأ ين والند والضد والشبيه والمثيل والشريك والزوجة والولد، وكل ما خطر ببالك هالك، والله سبحانه فوق ذلك.
وعندما نزل قول الله تعالي:(( وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه)) خط النبي صلي الله عليه وسلم خطا مستقيما، ثم خط علي يساره ستة خطوط تشبه جريد النخل ليوضح المعني.. وهو ما يعنى أن الرسول الكريم استخدم الرسم التوضيحي الذي لا يمكن أن يكون حراما.. فنحن نستخدمه في رسم الخطط العسكرية والخرائط الجيولوجية وكتب الفيزياء والأحياء.. لكن.. وجدنا من يأتي إلينا من الصحراء ليقول لنا: إن رسوم الأحياء حرام.. وطلب من التلاميذ أن يشطبوا عليها بعد أن يرسموها في واجباتهم المدرسية.. وكان سيدنا سليمان وهو نبي وخليفة ورسول يأمر الجن بصناعة التماثيل.. يقول سبحانه وتعالي(( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات)).. إن الحرام فقط هو اقتناء التماثيل واللوحات بغرض العبادة.
إن إبراهيم عليه السلام، عندما كسر التماثيل بيده لم يمنع عبادتها.. بل إن الذين كانوا يعبد ونها أعادوا صنعها بمادة أشد صلابة وأكثر زينة.. أما النبي عليه السلام فإنه عندما دخل مكة لم يكسر الأصنام، بل نزع احترامها من قلوب الناس.غير. قلوب الناس نحوها فلم يعد الذين كانوا يعبدونها يحترمونها فماتت وهي واقفة في مكانها.. لم يعد الناس يرونها قوية مؤثرة مقدسة.. فالنية محلها القلب.. وما دون ذلك لا قيمة له.
لقد سبقت رحمة الله غضبه.. ودعانا الرسول إلي أن نيسر ولا نعسر.. أن نبشر ولا ننفر.. فمن ييسر يجد اليسر ومن يعسر يجد العسر.. ولو كان الرسول هو المثل الأعلى، فلماذا نتخذ من أنفسنا أمثالا غيره؟.. وصفات الإسلام هي صفات الرسول: العدل.. السماحة.. البساطة.. الرحمة.. الكرم.. لقد كان عليه الصلاة والسلام قرآنا يمشي.. فلماذا نقطع ما كان يصله؟.. لماذا نحرم ما كان يحلة ؟.. (( لو خلقتموهم لرحمتموهم)) .. إنها مسألة حياة أو موت أن نكف عن التفسيرات الضيقة المتعسفة الجاهلة المتسرعة للدين.. وكفانا ما جري لنا.. وما ينتظرنا
في تصنيف : مقالات أخرى في سبتمبر 8th, 2010