ألغاز دينية تقطع الرقبة

صوت الأمة العدد 184
7/6/2004

” ألف ليلة وليلة ” ليس مجرد كتاب خيالى خرافى نتسلى به فى أوقات الملل والزهق.. وإنما هو بالنسبة لنا دستور قائم ومستمر منذ خمسمائة سنة أصبنا فيها بأمراض الخرافة والوهم واستخارة النجوم وقراءة الكف وفتح المندل والشلل العقلى والكساح الحضارى.. وكان واضحا أن أعضاء جمعية المنتفعين من هذا الكتاب والعاملين به يزدادون قوة وشراسة جيلا بعد جيلا.. خاصة فى سنوات الضعف والفشل والهزيمة.. وكل من يتجرأ وينتقدهم يضربونه بالبيض الفاسد ويتهمونه بالكفر والإلحاد والاعتداء على ضريح التاريخ وعظام الأجداد.
وأخطر ما فى أعضاء هذه الجمعية أولئك الذين يفسرون بسوء وجهالة النصوص الدينية الصحيحة والمقدسة ويفرضون عليها منطق الغيبوبة والنرجيلة والطربوش.. إنهم يخرجون من السراديب المظلمة متسترين وراء مظاهر شكلية تمنحهم حصانة وهم ينطقون بلسان ما مضى ويحرقون كل الطرق السريعة التى تنطلق عليها الحضارة العقلية الحديثة.
وهؤلاء فى الحقيقة يغرقون فى شبر ماء.. ويخلطون بين الفاعل والمفعول به.. بين ضمير المتحدث وضمير الغائب.. ويعالجون قضايا الأمة بضيق أفق يمزقها ويفرقها ويضعفها ويبدد قواها.
خذ عندك قضية كل عصر.. الإنسان مسيّر أم مخير؟.. ما أن تطرح حتى يشتبك الناس ويختلفوا.. ولو بقوا على حالهم ألف سنة فلن يحسموا ما تورطوا فيه.. فقد أخذوا كلمة إنسان على إطلاقها.. مع أنها كلمة تشمل الطفل والرجل.. العاقل والمجنون.. المقيم والمسافر.. القادر والعاجز.. العالم والجاهل.. المؤمن والكافر.. فكيف يكون هنالك تعريف يدخل كل أنواع وأصناف البشر فى كلمة واحدة؟.. وما يعقد الأمر ولا يحسم الإجابة، أن البعض يريد إجابة محددة منحصرة.. فكيف ندخل ما لا ينحصر تحت المنحصر؟.. هذا محال.. وطريق مسدود يؤدى إلى إجابة خاطئة.
اللغز قديم ولا يزال قائما.. مسيّر أم مخير؟.. الذين يؤمنون بأنه مسير يسمون أنفسهم القدرية.. وهم يقولون: الإنسان مسير مسير.. ويقولون لو كان فى اللوح مكتوبا يموت غريقا ولو ألقى بصحراء.. وكان ذلك ردا على الطرف الآخر الذى قال أنصاره: ألقاه فى اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء.. ويحسم هذا الجدل أن الإنسان إذا علم واستطاع فهو مخير محاسب.. وإذا فقد العلم أوالاستطاعة فهو مسير غير محاسب.. إن العلم بالزكاة والقدرة على أدائها مثلا يجعلان الإنسان مخيرا ومحاسبا.. ولو فقد الإنسان شرط العلم بها أو شرط القدرة عليها فهو مسير غير محاسب.. وهكذا يمكن تطبيق القاعدة دون استثناء.. إننا نرى بعينين.. فلا يجوز أن نتسأل:  بأى عين نرى؟..  ونحن نسمع بأذنين فلا يجوز أن نسأل بأى أذن نسمع؟.. ونحن نمشى بقدمين فلا يجوز أن نتسأل بأى قدم نمشى؟.. لا يجوز أن نصر أحيانا على إجابة واحدة قاطعة محددة ومنحصرة؟.. إن هذا الإصرار يجعل الكلمات تتصادم والأزمات تتفاعل والرقاب تطير.. وهو ما يضاعف الخراب والكساد وضياع الوقت والجهد.
إن احد هذه الأسئلة هو: هل القرآن قديم أم حديث؟.. لقد أخذ هذا السؤال جدلا واسعا على مدى عصور مختلفة.. الذين قالوا إنه قديم اعتمدوا على أن القرآن كلام الله والله موجود قبل الوجود والأزل.. إذن القرآن قديم.. والذين قالوا إنه حديث قالوا: إنه لو كان قديما فلماذا لم تسمعه الأمم التى قبلنا؟.. وبسبب هذه القضية اختلف أحمد بن حنبل مع أمير المؤمنين فى عصره.. فهو كان يرى أن القرآن قديم.. وكان أمير المؤمنين يرى العكس.. فكانت النتيجة انتصار القوة على العلم وحبس أحمد بن حنبل.
إن القرآن كلام الله هذا صحيح.. الكلام صفة المتكلم هذا صحيح.. إذن يكون القرآن قديم.. هذا صحيح.. يقول سبحانه وتعالى: [ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُـهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ] (23 الزمر).. لكن أصحاب الرأى الآخر يقولون: لو كان ذلك صحيحا فلماذا لم يسمع الأقدمون القرآن؟.. يقول سبحانه وتعالى: [ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مّـُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ] (2 الأنبياء).. إذن من ناحية المنطق الظاهر كلا الرأيين صحيح.. فكيف نحسم هذه القضية؟.. أين الاختلاف وحجة كل طرف قوية؟.
هنالك فرق لا يدركه المختلفون بين القول والكلام.. ولتوضيح هذا الفرق نضرب مثلا.. أحيانا ُيفوض رئيس الجمهورية مسئولا آخر لإلقاء كلمة له فى احتفال ما.. تكون الكلمة الملقاة هى كلام الرئيس.. لكنها فى الوقت نفسه تكون قول من يلقيها.. يقول سبحانه وتعالى: [ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ] (19التكوير،40الحاقة).. القرآن قول رسول الله ^ لكنه فى نفس الوقت هو كلام الله.. فلو نسب القرآن إلى الله يسمى كلاما ويكون قديما.. وإذا نسب إلى رسول الله يسمى قولا ويكون حادثا.. يقول سبحانه وتعالى: [ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ] (2،1 الفلق).. ويقول سبحانه وتعالى: [ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ] (الصمد).. ويقول: [ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل ] (70الأنفال،28الأحزاب،59الأحزاب).. ومن ثم لا تعارض بين وجهتى النظر.
وهنالك فرق بين الفعل والعمل.. بين الأفعال والأعمال.. فمتى نسمى ما نفعل عملا ومتى نسميه فعلا ؟.. ففي الحديث الشريف الذي ورد في صحيح البخاري – الجزء الأول ، ص (13) :
1 – حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال سمعت رسول الله ^ يقول ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) .
.. والله يحاسب على الأعمال.. والأعمال بغير نية لا تعتبر أعمالا.. وبصورة عامة.. العمل يكون بناء على تكليف ننفذه بنية وهو مقيد بمقادير مثل الصلاة( مقيدة بالإتجاه للقبلة مثلا).. والزكاة ( مقيدة بمال ونصاب مر عليه الحول مثلا).. هذا هو العمل.. مقيد.. ومحدد.. ويشترط النية.. أما الفعل فهو مطلق وغير مقيد ولا يشترط النية.. مثل اللبس.. اللبس غير مقيد بقيمة أو جهة أو عدد أو هيئة أو مكان أو زمان.. كل هذه أعمال.. يقول سبحانه وتعالى: [ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ] (25البقرة،277البقرة،57آل عمران).. ولم يقل الذين آمنوا وفعلوا الصالحات.. ويقول: [ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم ] (195 آل عمران).. ولم يقل ” فعل فاعلا منكم”.. إن التفرقة بين الفعل والعمل ضرورة فى مواجهة الذين يخلطون بين الأفعال والأعمال.. فيفتون فى الملبس والمأكل (وهى أفعال مثلا) بالحيوية نفسها التى يفتون بها فى الصلاة والزكاة وهى أعمال مثلا.. ضرورة تجعلنا من أهل التيسير لا من أهل التعسير

ولا حول ولا قوة إلا بالله