فوضى الفتوى

صوت الأمة العدد 145
8/9/2003

هناك فوضى في الفتوى .. كل من يؤلمه ضرسه يسارع إلى المشايخ ليسألهم : خلع الضرس حلال أم حرام ؟ .. كل من لا يعجبه رصف الشوارع يهرع إليهم سائلا : حلال أم حرام ؟ .. كل من لا يفهم حقيقة مجلس الحكم المؤقت في العراق يجري مصابا بالهلع إليهم قائلا : أفتونا .. حلال هذا المجلس أم حرام ؟ لا شيئ في حياتنا أصبح يمر بدون العبور على دار الافتاء .. الأحزاب السياسية .. المناهج المدرسية .. الرعاية الصحية .. الشئون العائلية .. الإشارات المرورية .. العلاقات الدولية .. كل شيئ صغر أم كبر.. قرب أم بعد !! . ومن حق رجال الدين أن يفتوا في كل شيئ .. يقول سبحانه وتعالى : [ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ]
(38 الأنعام).. والتفسير : إن كل شيئ يمكن فهمه في إطار القرآن .. ولكن .. لا تجوز الفتوى إلا من أهل الإختصاص .. لابد من الرجوع إلى أهل الإختصاص .. فلو انهارت عمارة لا يجوز لشيخ من شيوخ الفتوى أن يقر بالغش فيها إلا بعد أن يقر ذلك لجنة من أساتذة كلية الهندسة .. ساعتها يقول الشيخ : إنها عمارة مغشوشة .. ولو كان هناك دواء ما لم يختبر بعد. لا يجوز أن يبيحه أو يمنعه شيخ من شيوخ الفتوى إلا بعد أن تفحصه لجنة متخصصة من أساتذة الصيدلة .. باختصار لا يجوز أن يفتى أحد في أمور الدنيا إلا بعد الرجوع إلى جهات الإختصاص. ولا أمان من الفتاوي الخطأ إلا بالثقافة الدينية .. ولا أمان منها إلا إذا عرف رجل الدين أن الدين منزه عن صراعات الدنيا وحسابات السياسة .. وعليه ألا يحشره في أي شيئ .. وقد كان مشاهير العلماء يتجنبون الفتوى بقدر مـا يستطيعون .. كان يحيى بن معين من كبـار العلمـاء في عصره .. وكان إذا سئل عن فتوى يقول شعرا : ” أيعبد رب العالمين على رأي يحيى بن معين ” .. وأفضل من يفتي هو من يقول ” لا أدري ” .. فمن قال لا أدري فقد أفتى واستبرأ لدينه وعرضه . ومصدر الفتوى الوحيد هو رسول الله ^ .. غير أنه أمر بأشياء ونهي عن أشياء وسكت عن أشياء .. فما سكت عنه رسول الله ليس جهلا ولا نسيانا وإنما توسعة على الأمة وعملا برأي الله سبحانه وتعالى [ مَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُواْ ] (7 الحشر). ولكن .. حتى نعرف ذلك يجب أن نكون قادرين على فهم الدين فهما عميقا ولا نأخذه بظواهر النص .. لقد أفتى شيخ جليل بأن الاسلام يبيح الارهاب وهو يفسر قوله سبحانه وتعالى : [ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ] (60الأنفال) .. لقد فسر [ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ] بإباحة الإرهاب.. لكنه لم يقل لنا ما هي الشروط التي نحدد بها عدو الله وعدونا ؟ .. هل هو الذي يحددها ويختارها ؟ ويشترط فيمن يفتي أن تكون كلمة لا أدري أقرب إلى لسانه من كلمة أدري .. وإن قال أدري أعقب فتواه بعبارة ( والله أعلم ) .. فلهذا مؤشر على سعة العلم والحلم والتواضع .. أما إذا ساد بين الناس أو بين العلماء الشح المطاع والهوى المتبع وأعجاب كل ذي رأي برأيه فهذه هي الكارثة ..
 وورد في سنن أبي داود – الجزء (4) ، ص (512) :
4341 – حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي ثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال حدثني أبو أُمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخُشني فقلت يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية { عليكم أنفسكم } قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله ^ فقال ( بل ائتمروا بالمعروف وتَناهَوا عن المنكر حتى إذا رأيت شُحّاً مطاعاً وهوى متَّبعاً ودنيا مؤْثَرَةً وإعجاب كل ذي رأْي برأْيه فَعليك -يعني بنفسك- وَدَعْ عَنكَ العوامَّ، فإنَّ منْ ورائكم أيام [ الصبر ] الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله ) وزادني غيره قال يارسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال ( أجر خمسين منكم ) .
.. أي الأفضل أن تلزم بيتك .. خليك بالبيت .. خليك في حالك .. ضع لسانك في حلقك . ويجب ألا يكون رجل الدين في أوقات الفتنة ظهرا يركب أو لحما يؤكل أو ضرعا يحلب .. لا يجوز أن نستخدمه على هوانا وهوى الأحداث .. بل عليه في أوقات الفتنة أن يطفئ الحرائق .. لا يضاعفها .. فما أسهل إشعال الحرائق .. وما أصعب إطفاءها .. لقد أفتى علماء الأزهر بالجهاد في سبيل الله في حروبنا مع إسرائيل وأفتوا بالصلح معها .. وعندما احتل العراق الكويت انقسم علماء الأمة بين مؤيد للاحتلال ورافض له .. بين مؤيد لتحرير الكويت بقوات أجنبية وتحريم وجود هذه القوات في السعودية .. وسبق أن أفتى العلماء بشرعية قانون الاصلاح الزراعي. وفيما بعد أفتوا بشرعية الرجوع فيه. إن الفتوى يجب أن تكون من أهل الإختصاص ولصالح المسلمين وبشرط ألا تضر مصالح الآخرين. وقد سمح الرسول ^ للمسلمين بالاجتهاد حتى في قراراته ..
فقبل موقعة بدر طلب الرسول ^ أن تكون عين بدر بين المسلمين والمشركين .
وكما جاء في سيرة ابن هشام – الجزء (2) ، ص (192) :
قال ابن إسحاق : فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا : أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ .. قال ^ : (بل هو الرأي و الحرب والمكيدة) فقال : يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله ^ : ( لقد أشرت بالرأي فنهض رسول الله ^ ومن معه من الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت و بنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء ثم قذفوا فيه الآنية .
هنا طلب الصحابي أن تكون عين بدر خلف المسلمين .. يشربون منها ولا يشرب المشركون كنوع من استغلال الميزة النسبية .. فوافق الرسول ^ .
لنجد أن القاعدة هنا هي مصلحة المسلمين .. وعدم الاضرار بهم .. حتى لو أجبرتنا الظروف على الانسحاب من المعركة .. بشرط أن نعد العدة ونستعد للعودة إليها .. يقول سبحانه وتعالى: [ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ] (16،15 الأنفال).
 يا أيها العلماء الأفاضل ويا شيوخنا الكبار من قال لا أعرف فقد أفتى .. ومن رجع إلى أهل الإختصاص سلمت فتواه

ولا حول ولا قوة إلا بالله