ما الفرق بين المغفرة والتوبة ؟
صوت الأمة العدد 141
11/8/2003
كأنك تستحم بعد أن غطاك الغبار .. كذلك تنعم بتكييف هواء بعد لسع النار .. كأنك تجد صديقا يبدد الوحشة بعد طول انتظار .. كأنك تعود إلى الحياة بعد أن وجدت نفسك على حافة انتحار .. كأنك في مواجهة الخطايا تعرف معنى الانتصار .. إنها التوبة.. كلمة السحر التي يعبر بها الانسان جسر الذنوب ليعود إلى الحق ثوبا ناصعا وقلبا شفافا وضميرا ثاقبا .. فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له . والتوبة لاتحتاج إلى شروط صارمة .. يكفي الاقلاع عن الذنب في الحال .. والندم على ما مضى .. والعزم على عدم العودة .. ورد المظالم إلى أصحابها كلما أمكن ذلك .. لكن .. هناك من يضيف شرطا آخر لا حق له في إضافته هو قبول الله للتوبة .. هذا شرط مستنكر .. فلا شروط على الله سواء في التوبة أو في غيرها .. هذه جرأة لا يقدر عليها أحد . ما يعنينا من التوبة .. تغير رفقاء المعصية برفقاء الطاعة حتى يجد المذنب معينا ومذكرا له إذا غفل .. يجب أن يجد من يتوب على يديه .. أستاذا .. شيخا .. قدوة .. شخصا ما يلجأ إليه كلما غمض عليه أمر .. ويجب ألا يطمئن لقبول توبته .. فهذا يؤدي إلى عدم الاستغفار .. يجب أن يكون المؤمن على يقين من ذنبه .. وعلى شك من قبول توبته .. فلو شك في قبول توبته فإنه يستغفر من جديد .. والشك في قبول التوبة ليس شكا في رحمة الله وإنما هو تعلق بالعلة كي يكون قريبا من الله فيداوم على الاستغفار .. بل عليه أن يداوم على الاستغفار ولو لم يرتكب ذنبا . يقول ^ في الحديث الشريف الذي ورد في
صحيح مسلم – الجزء (4) ، ص (2106) :
11 – ( 2749 ) حدثني محمد بن رافع حدثنا عبدالرزّاق أخبرنا معمر عن جعفر الجزري عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ^ : ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ) .
ومن ظاهر القول الشريف نتساءل : هل يريدنا الله أن نرتكب معصية فنستغفر فإن لم نفعل ذهب بنا وأتى بغيرنا يذنبون ويستغفرون ؟ .. أبدا .. العكس صحيح .. يريدنا الله ألا نذنب ورغم ذلك نستغفر .. فالحديث يقول : ( لو) وهي أداة شرط : ( لم تذنبوا ) وتعني نفي الذنب .. تعني الطاعة .. فلو أطعتم ولم تستغفروا لذهـب الله بكـم .. والمقصـود أن عدم ارتكـاب الذنب لا يعني عدم الاستغفار .. فالاستغفار ضرورة حتى دون ذنوب. إن من الطبيعي أن نذنب ونستغفر ولكن غير الطبيعي ألا نذنب ورغم ذلك نستغفر .. إن الله يقبل توبة من أذنب ويفرح باستغفاره .. والمؤكد أنه يفرح أكثر بمن يستغفر دون أن يذنب .. ولو شبهنا ذلك ببنك .. فلا بد أن البنك سيفرح بمدين جاء إليه ليسدد ما عليه من قروض .. لكنه سيفرح أكثر بعميل غير مدين جاء إليه ليودع مالا ليدخره . وقد كان سيد المستغفرين رسول الله ^ يستغفر الله في اليوم أكثر من 70 مرة ولم يكن له ذنب.
وكما ورد فى صحيح البخارى الجزء(4) ص(154) :
6307-حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال قال أبو هريرة : سمعت رسول الله ^ يقول :( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة).
فالذين أطاعوا واستغفروا يحبهم الله .. والاستغفار مطلوب للمذنب ولغير المذنب والله يحب الذين يستغفرون للذين امنوا رغم أنهم لم يذنبوا هم شخصيا .. إنهم صمام الأمان الذين يرحم الله بهم الأمة .. وباستغفارهم على غير ذنب ارتكبوه للذين آمنوا تبقى الأمة .. فلو لم يوجد مثلهم لذهب الله بهذه الأمة وجاء بغيرها. والتوبة الحقيقية غير التوبة الدارجة في تصوراتنا .. التوبة تكون من معصية .. ويرزق الله بها المؤمن .. يقول سبحانه وتعالى : [ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْ ] (118 التوبة) .. ويقول سبحانه وتعالى : [ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَـآ ] (128البقرة) .. ويقول سبحانه وتعالى : [ لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ ] (117 التوبة) .. وتاب عليه تعني أنه هو الذي رزقه التوبة .. والتائبون نوعان : طالب ومطلوب .. طالب توبة .. ومطلوب للتوبة .. طالب التوبة هو الذي يتوب عن ذنب لكنه قد يعود إلى ارتكابه مرة أخرى .. والمطلوب للتوبة هو الذي دعاه للتوبة فلا يعود إلى المعصية .. طالب التوبة مجتهد في التوبة .. المطلوب للتوبة هو الموفق إليها. إذا تاب الله على عبد أنسى الحفظة ( ملائكة التسجيل ) ذنوبه حتى يلقى الله وليس عليه شاهد بذنب ووفي عنه حقوق الآخرين(المظالـم التي قام بها( الله يتولى الوفـاء بهـا .. ويتولى عنـه القصاص لنفسه .. يعني لو له حق يأتي له الله به.. وفي هذا الوقت يصبح عتيق الله في أرضه .. وساعة العتق ينادي جبريل عليه السلام في أهل الأرض والسماء: إن فلانا هذا عتيق الله في أرضه من كان له عليه دين فليتقاضاه من الله ومن كان عليه له دين فليؤده إلى الله. وسيدنا عمر بن الخطاب مثلا هو واحد ممن رزقهم الله التوبة .. لقد وصل غضبه من النبي ^ إلى حد أن قرر قتله .. وعندما مر ببيت أخته ليعرف منها سبب إيمانها سمعها تقرأ [ طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى ] (2،1 طه) فرق قلبه للإيمان .. وعلى العكس تماما عبد الله بن أبي بن سلول .. رأس الفتنة .. وكان يظهر الطاعة لكنه يبطن البغضاء . والإنسان لو عاد في توبته يكون كمن يستهزئ بالله – استغفر الله – يقول سبحانه وتعالى لرسوله ^ : [ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْـمُسْتَهْزِءِينَ ] (95 الحجر) .. ويقول سبحانه وتعالى : [ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَـا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ] (15،14 البقرة) .. فليس كل من سعى إلى التوبة نالها .. ولكن من سعت إليه التوبة أو من اصطفى لها أو من تاب الله عليه فذلك هو القبول .. وبالتالي لا يصح أن نضيف لشروط التوبة شرط أن يقبلها الله .. فلا شروط مع الله . يقول بعضهم : إنى عصيت الذي إن شاء عذبني .. لكنه بجميل الستر غطاني .. أعصاه يسترني أنساه يذكرني فكيف أنساك يا من لست تنساني . في إحدى الغزوات تخلف بعض المسلمين عنها فاستدعاهم الرسول ليحاكمهم على تخلفهم .. وكان صلى الله عليه وسلم يقبل كل عذر يقال له حتى لو كان صاحبه كاذبا إلا ثلاثة منهم على رأسهم كعب بن مالك .. هؤلاء أبوا أن يكذبوا على رسول الله ^ .. قالوا ندخل النار بأي سبب آخر غير الكذب على رسول الله .. لكن.. المفاجأة أن الرسول ^ لم يعاقب سواهم .. وكان العقاب مقاطعتهم فلا بيع لهم ولا شراء منهم ولا تعامل معهم .. بل أن الثلاثة نفذوا العقاب فيمـا بينهم هم أيضا .. فعلوا ذلك حتى تـاب الله عليهم.. حتى وفقوا إلى التوبة .. حتى نزلت توبتهم .. وقد وضع الله نبيه معهم تكريما لهم وللتوبة .. لقد تاب الله على النبي ^ وعلى الثلاثة الذين لم يكذبوا عليه .. ولم يقل إنهم تخلفوا عن القتال وإنما خلفوا عنه .. وكأنهم تخلفوا بأمر من عند الله .. فلما بلغ النبأ كعب بن مالك ذهب إلى الرسول ^ الذي قال له : ( لقد تاب الله عليك يا كعب ).. أي قبل توبتك .. فقال كعب : وسماني باسمي يا رسول الله ؟ قال ^ : ( وسماك باسمك يا كعب ). أما الذين كذبوا على رسول الله ^ فقد قال سبحانه وتعالى عنهم : [ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَـثَـبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ] (46التوبة) .. يكفيهم أنهم كذبوا على رسول الله ^ .. بل إنهم عندما كذبوا على رسول الله ووجدوا الرسول يقبل كذبهم شكوا في رسالته واهتزت عقيدتهم فيه .. بدعوى أنه لم يكشف كذبهم .. ظنوا أنهم خدعوه .. يقول سبحانه وتعالى : [ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ ] (9 البقرة) .. ” ويقول سبحانه وتعالى : [وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ] (62 الأنفال) .. [ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللهَ مِن قَبْلُ ] (71 الأنفال). لقد كان الأجدر بهم أن يعترفوا بذنبهم ويتوبوا.
وكما ورد فى صحيح مسلم الجزء(4)ص(2113) :
( 2759 ) حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال سمعت أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى عن النبي ^ قال :( إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ).
فالله يبسط يده بالليل ليتوب مسيئوا النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئوا الليل .. والتوبة تحمل في طياتها الشفاعة . يقول سبحانه وتعالى : [ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ] (33 الأنفال) .. أما صحة قبول التوبة فنراها واضحة في قوله سبحانه وتعالى : [ وَلَوْ أَنَّـهُمْ إِذْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَـهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ] (64 النساء) .. لكن .. ما الفرق بين التواب الرحيم والغفور الرحيم .. الغفور: السماح على ذنب بعينه فقط .. والتواب: السماح على ذنب بعينه ثم العصمة من الوقوع في الذنوب مرة أخرى .. وهو ما يعني أن التوبة تجب المغفرة
ولا حول ولا قوة إلا بالله
في تصنيف : لحظة نور في يوليو 22nd, 2010