ولكم فى التصوف..حياه

صوت الأمة العدد 138
21/7/2003

هناك من يقول إن كلمة صوفى ترجع إلى كلمة “سوفيا” اليونانية وهى تعنى الحكمة.. واقتنع الناس بهذا التعريف .. لكن لماذا نلجأ إلى اليونانية ونحن أمة عربية؟ .. وهناك من يقول إن الصوفية من الصوف دلالة على الخشونة .. لكن لو صح هذا التعريف لكانت الأغنام أكثر خلق الله تصوفا .. فهى لا تستورد الصوف ولا تشتريه وإنما ينبع منها .. هى مصدر الصوف .. وهناك من يقول إن الصوفية من أهل الصفة (بضم الصاد وتشديد الفاء) وكانوا حفظة القرآن ولا يعملون ويحصلون على رزقهم من الصدقات .. لكننا فى زمن غير زمانهم .. ويصعب نسب الصوفية إليهم.
أظن–  وظنى أقرب إلى المنطق – أن كلمة صوفى ليست إسما وإنما فعل ماض مبنى للمجهول .. كأن نقول ( عوفى المريض ) .. ( نودى الرجل ) .. ( وورى الميت ) .. ويمكن أن نقول أيضا: صُوفى الرجل .. فأصل الكلمة من الصفاء والمصافاة .. صفا .. صاف .. صوفى .. لكن .. كيف يصاف الإنسان؟ .. يقول سبحانه وتعالى: [ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ ] (42 آل عمران) .. هذه التصفية هى أول مراحل الوصول إلى الصفاء الذى ينم عن المصافاة .. والمصافاة مكاشفة .. أخرج ما فى باطنك .. كن مكشوفا .. بح بسرك .. لقد اصطفى الله مريم .. ثم طهرها .. ثم اصطفاها مرة أخرى .. أى كاشفها .. فالمصافاة هى المكاشفة .. والصوفية أيضا .. على أن الأهم من التعريف ما وراءه .. الجوهر.
بماذا يسمى رجل شهد الشهادتين وأدى الصلاة ووفى الزكاة وصام رمضان وحج بيت الله الحرام؟ .. سمه ما شئت .. لكن التسمية لن تخرج عن كونه مسلما .. فالمفروض أن يقرأ المؤمن كتاب الله ولو لمرة واحدة ثم ينفذ ما جاء فيه من تعليمات طوال حياته .. كل مرة يصلى فيها كأنه قرأ قول الله تعالى : [ أَقِيمُواْ الصَّلَاةَ ] وهذا أفضل من أن يقرأ قوله تعالى : [وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ ] ألف مرة ولا يصلى وأفضل له أن يصوم رمضان من أن يقرأ ألف مرة قوله تعالى: [ فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ] (185 البقرة) .. ولا يصوم، فالاسلام دين عمل .. يقول سبحانه وتعالى: [ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْـمُؤْمِنُونَ ] (105 التوبة).
وهذا هو إيمان العوام .. هو إيمان تنفيذ الأمر الإلهى دونما نظر إلى الفائدة التى تعود عليهم من تنفيذها زادت أو نقصت .. فإذا سألت شخصا عاديا لم تصوم؟ .. يقول لأن الله كتب علينا الصيام .. فهو لا يعبأ بما يقوله الأطباء والفلاسفة من كون الصيام يهذب الطبع ويصلح الدورة الدموية .. الشخص العادى لا يلتفت إلى ذلك .. فهو ينفذ الأمر الإلهى دون أن يعرف ما سيجنى من ورائه؟ وإذا كان المؤمنون مأمورين بتنفيذ الفروض فإن هناك عبادة فارقة بين طائفتين يختلفان عليها هى ذكر الله .. قال البعض: إن كل العبادات التى نؤديها فيها ذكر الله .. وقال الصوفية: إن هذا القول صحيح ولكن هناك عبادة أمرنا بها وهى منفصلة وقائمة بذاتها: الذكر .. المضيعون يعتقدون أن العبادات العادية تتضمن الذكر .. والمدققون .. المحققون، لأنهم لا يتركون أمر لله أو لرسوله إلا ونفذوه، فهم لا يعتقدون بوجود تكرار جاء دون مغزى .. لا يعترفون بالمترادفات.
الذكر فى الرأى الأول عبادة موجودة ضمنا فى كل العبادات وهو قول صحيح .. مثل الماء الموجود فى كل طعام وشراب .. لكن .. الله سبحانه وتعالى يقول: [ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ] (24الحاقة،43المرسلات).. فلماذا يدعونا للشرب إذا كان الماء الذى فى الأطعمة يكفى .. لابد أن للماء وظيفة مستقلة كماء بمفرده .. والله سبحانه وتعالى يأمرنا بالصلاة والصوم والزكاة والحج وإفشاء السلام ورحمة اليتيم .. وذكر الله .. فلا تغنى واحدة عن الأخرى .. كل الأوامر الإلهية يجب أن تنفذ .. هذه نقطة الخلاف .. ذكر الله.
لكن .. من الغريب أن المضيعين لهذا الأمر الإلهى يتهمون المصرين على تأديته بالخروج على الدين .. وليس العكس .. بدلا من أن يقلد المقصر المؤدى فى الوفاء بالذكر .. يريد أن يقلل من عزمه فى الأداء .. كأنه يريد أن يقول: قصروا كما نقصر .. ضيعوا كما نضيع .. وكان المفروض أن يقول الآخر: أكملوا كما نكمل .. ووفوا كما نوفى .. على أن الصوفية درجوا ألا يتدخلوا بين الله وعباده .. فإذا رأوا مقصرا نصحوه بالحكمة والموعظة الحسنة فإن استجاب فبها ونعمت وإن أبى يقولون الحمد لله الذى عافانا مما ابتلى به كثيرا من خلقه.
والغريب كذلك أن الناس تعارفوا على أن الصوفى هو رجل رث الثياب .. كسول .. قليل العلم … متسول .. يفترش الأرض .. ويلتحف السماء فى الموالد والطرقات .. واستقر هذا المعنى عند البعض حتى أنهم إذا ما رأوا رجلا نظيف الثياب يحافظ على هندامه ونظافته ويقول إنه صوفى ينتقدون هذا أيضا .. ويواجهونه بالقول: ما هكذا ينبغى أن يكون الصوفى .. المعنى الخطأ إستقر عندهم فأصبح قاعدة .. قاعدة قعدوا عليها .. ويريدون أن يقعدوا الآخرين مثلهم.
ما هو أهم من المظهر أن الصوفية قائمة على ذكر الله تعالى والصلاة على رسول صلى الله عليه وسلم وحب آل البيت رضوان الله عليهم الذى هو من أكد (شده على الدال) الفروض كقول الإمام الشافعى رضى الله عنه : ( يا آل بيت رسول الله حبكم .. فرض من الله فى القرآن أنزله ) .. وفى بيت آخر يضيف: ( يكفيكم من عظيم الفخر أنكم .. من لم يصل عليكم لا صلاة له ) .. هذه صوفية الشافعى الذى يرد على من يتهمون الصوفية بالبدعة فى بيت ثالث: “لو كان حبى آل أحمد بدعة .. فإنى بتلك البدعة العمر مكتف”.
إن حب أل بيت رسول الله يربط المؤمنين بقواعد الدين ولا يخرجهم عنها .. فأمة لا يربط بينهما الحب لا شك أن ما سيربط بينها هو الكره .. أو البغض ..وستظل متنافرة .. متناثرة .. متناحرة .. متباعدة.
إذن الصوفية تقوم على ذكر الله . والصلاة على رسوله .. وحب أل البيت .. وكل منها فريضة .. وكلها فروض مكلف بها أى مؤمن حتى وإن لم يسم نفسه صوفيا .
وورد فى سنن الترمذى الجزء (5) ص(540) :
3600 – حدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد قالا : قال رسول الله ^ : ( إن لله ملائكة سياحين في الأرض فضلا عن كتاب الناس فإذا وجدوا أقواما يذكرون الله تنادو هلموا إلى بغيتكم فيجيئون فيحفون بهم إلى سماء الدنيا فيقول الله على أي شيء تركتم عبادي يصنعون ؟ فيقولون تركناهم يحمدونك ويمجدونك ويذكرونك قال فيقول فهل رأوني ؟ فيقولون لا قال فيقول فكيف لو رأوني ؟ قال فيقولون لو رأوك لكانوا أشد تحميدا وأشد تمجيدا وأشد لك ذكرا قال فيقول وأي شيء يطلبون ؟ قال فيقولون يطلبون الجنة قال فيقول وهل رأوها ؟ قال فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوها ؟ قال فيقولون لو رأوها كانوا لها أشد طلبا وأشد عليها حرصا قال فيقول من أي شيء يتعوذون ؟ قال يتعوذون من النار قال فيقول وهل رأوها ؟ فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوها فيقولون لو رأوها كانوا منها أشد هربا وأشد منها خوفا وأشد منها تعوذا قال فيقول فإني أشهدكم أني قد غفرت لهم فيقولون إن فيهم فلانا الخطاء لم يردهم إنما جاءهم لحاجة فيقول هم القوم لا يشقى لهم جليس ) .
.. الصوفية محبة .. والمحبة إتباع .. والمحب لمن يحب مطيع .. والاتباع ليس عبادة .. والمحبة ليست عبادة .. لكنها الأساس الذى يبنى عليه الإيمان .. لقوله تعالى: [ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ] (54 المائدة).
ولا جدال أن الجهل أو الخطأ فى الفهم والتعريف هما سر الصراع والخلاف بين الصوفيين وغيرهم ممن يرفضونهم ويرمون ما يفعلون بالبدعة .. أما تعدد الطرق الصوفية فهو تعدد فى وجهات النظر .. تعدد فى وسائل التعبير عن الحب .. تعدد أساليب التدريس والتعليم والتعبير .. وهو أمر لصالح الصوفية وليس عليها.
وبسبب الصورة الشائعة الخاطئة عن الصوفيين والتى نراها فى الموالد والمساجد فإن الناس تفاجأ عندما تعرف أن عالما مبتكرا .. أو سياسيا بارعا .. أو طبيبا رحيما .. أو فنانا مبدعا يمكن أن يكون صوفيا .. إن النسبة الغالبة للصوفيين فى مصر من حملة الشهادات العليا .. أصحاب التميز فى مجالاتهم .. لكن .. لا أحد ينكر أن هناك مشعوذين ودجالين ومتسولين ننسبهم إلى الصوفية .. لكن السؤال: هل هذه هى الصوفية ؟.
إن وجود صفة ليست حميدة فى مسلم ليس معناه أنها صفة فى الإسلام .. فاللصوص والمرتشون والمختلسون قد يكونون مسلمين .. لكن هل هذا هو الإسلام ؟ .. إن النبى ^ لم ينكر أن فى الأمة من يغش .. فقد تجول فى السوق ووضع يده فى طعام معروض للبيع فأصابت يده الشريفة بللا ففي الحديث الشريف
 كما ورد في صحيح مسلم – الجزء الأول، ص (99):
164 – ( 101 ) حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب( وهو ابن الرحمن القاري ) {ح} وحدثنا أبو الأحوص محمد بن حيان حدثنا ابن أبي حازم كلاهما عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة : أن رسول الله ^ قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا) .. لم يقل ( من غشنا فليس فينا ).. ففينا الغشاش .. ولكنه ساعة أن يغشنا لا يكون منا ..إن وجود من يفعل الخطأ فى طائفة لا يسمح لنا أن نسمها بجريرة واحد منها.
إن الصوفية كتاب ضخم .. لم نقرأ منه سوى السطر الأول .. ولم نمش إليه إلا الخطوة الأولى .. ولم نستنشق منه إلا قطرات الندى فى فجر الحب والإيمان .. والبقية بإذن الله وبمدد منه تأتى وتشملنا برعايتها

ولا حول ولا قوة إلا بالله