الخطوط الحمراء فى الطاعة و المعصية

صوت الأمة العدد 137
14/7/2003

كلنا يبغى وجه الله .. نعيش فى رحابه .. نتمنى رضاه .. وعندما نذنب نقدم دموعنا بين يديه عله يعفو ويغفر ويسامح .. لكن ما يؤرقنا .. ويرهقنا .. أن هناك من يستكثرون علينا نعمة الله ورحمته .. يصدرون لنا الوجه القاسى والعنيف .. فيجعلون من الذنوب حتى ولو كانت صغيرة جبالا هائلة لا تمحى ولا تغتفر .. هؤلاء جعلوا من الله الرحيم إلها يمسك بسكين يذبح بها من يخطئ على قارعة الطريق دون أن يسأله لماذا أخطأت.. رغم أن الإسلام بروحه السمحة أعلى من شأن الخطائين التوابين.
فلا تستكثر ذنوبك على الله، فهذه معصية فى حد ذاتها، إن أول الذنوب التى يغفرها الله ذنب إرتكبه رجل دون وجود شاهد عليه من الناس، وآخر الذنوب التى يمحوها ذنب إقترفه رجل ظن أن الله لن يغفر ذنوبه .. ولن يسامحه ،
وكما ورد فى كتاب مختصر تاريخ دمشق : الجزء (7) – ص (88)
أسند الحافظ ابن عساكر من طريق الحسين ابن أحمد بن مسلمة الربعى عن أنس قال : قال رسول الله ^ : ( إذا تاب العبد أنسى الله الحفظة ذنوبه وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض حتى يلقى الله وليس عليه شاهد من الله ذنب ) .
فإذا تاب العبد أنسى الله الملائكة الحفظة ذنوبه حتى يلقى الله وليس عليه شاهد على ما ارتكب. هذا رغم أن ذنوبنا لا تضر الله شيئا.. ولا تنفعه طاعتنا شيئا .. فهو الغنى الذى يستغنى عن الخلق .. وقد أعلمهم بذلك .. يقول سبحانه وتعالى : [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرزّاق ذُو الْقُوَّةِ الْـمَتِينُ ] (56-58 الذاريات).
كما ورد في صحيح البخاري – الجزء (4)،ص(61)
5827 – حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث عن الحسين عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر رضي الله عنه حدثه قال:  أتيت النبي ^ وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال: ( ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ). قلت: وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ( وإن زنى وإن سرق ) . قلت وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ( وإن زنى وإن سرق ) . قلت وإن زنى وإن سرق ؟ قال ( وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر).
ولا يعنى حديث الرسول ^ التفريط وإنما يعنى أن نفعل ما علينا.. نشكر الله على نعمته ونستغفره على ما ارتكبنا من الذنوب دون أن نيأس من الرحمة التى بسطها أمامنا دون حدود
ما يدهشك أن المذنبين ليسوا وحدهم من يتجاوزون الخطوط الحمراء .. ولكن أهل الطاعة أيضا يتجاوزون .. فهم وبعد أن يؤدوا العبادات التى تنفعهم يطالبون الله بعائدها، يتفاخرون بحساباتهم عنده سبحانه وتعالى يحسبون مالهم وكأنهم دائنون، مع أنهم مثقلون بالديون، ويمكن أن يعرفوا ذلك ببساطة إذا أمسكوا بالنوتة وجلسوا ليحسبوا مالهم عند الله وما عليهم له.
لكنهم يمسكون بالنوتة ويحسبون مالهم فقط، منتهى التجاوز، لكن بحسبة بسيطة وإذا فكروا قليلا وتأملوا ولو للحظات فسيدركون أن عروقهم خالية من الدم ومشاعرهم خالية من الاحساس فكيف يطالبون صاحب رأس المال ومالك كل ما هم فيه من نعم بمقابل عن بعض ما طلبه منهم أو بعض ما كلفهم به، فكل ما هم فيه دين عليهم.. لو نظروا إلى الموضوع من هذه الزاوية فسيشعرون بالخزى .. ولن يترددوا فى تمزيق النوتة الهزيلة التى يمسكون بها.. فالتكليف ليس دينا على الله وإنما تشريف لنا جميعا.. يتميز من يختصه الله به .. فيه يتحول إحساسنا من إحساس الدائن إلى إحساس المدين، من إحساس من له إلى إحساس من عليه، من إحساس بالقوة إلى إحساس بالعجز عن السداد، ومن ثم يحلم بالتكليف فهو تشريف واصطفاء واشتياق .. وهذه درجات العبادة.
بهذا وحدة ترتقى أخلاق المؤمن فيشعر أنه لا حول ولا قوة له .. فلا يجرؤ على إنكار الشفاعة بحجة أن لديه رصيدا هائلا من الأعمال .. فهو فى الأساس لا يملك شيئا.. لا يساوى شيئا .. بل إنه لو وفقه الله لشكره على نعمة وهبها الله له وحمده عليها، فالشكر والحمد فى حد ذاتهما نعمة جديدة [ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ] (7 إبراهيم).
والسؤال الذى لابد أن يقتحمك ويحيرك هو كيف نشكر الله إذن؟ إن كل نعمة لها شكر هو رد النعمة إلى المنعم ثم تؤدى حقها إن كانت مالا وصحة فزكاه لغيرك، وان كانت أمانة نحافظ عليها حتى نسلمها لصاحبها واسمع إلى سيدنا إبراهيم الدسوقى رضى الله عنه وهو يقول:
( إذا صمت فهو الذى صومك..وإذا قمت فهو الذى قومك وإذا عبدت فهو الذى وفقك للعبادة) لهذا فالكل مدين لله .. يقول سبحانه وتعالى: [ فَلَوْلَآ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ] (87،86 الواقعة).
إن العدل يعنى شيئا مقابل شئ .. سلعة تعادل قيمة .. فلو أخذنا السلعة بنصف قيمتها أو بأزيد من قيمتها فهذا هو الاحسان، سلعة بنصف قيمتها إحسان من صاحبها، سلعة بأزيد من قيمتها إحسان إلى صاحبها، اما الحصول على السلعة بلا مقابل فهذا هو الايتاء .. عطاء بغير مقابل .. وبلا انتظار لكلمة شكر وبلا مبرر فإيتاء الزكاة معناه إخراجها دون انتظار شئ مثلا.
 إن اعمالنا بالنسبة إلى الله مثل الذى ينزح بإناء صغير ماء البحر من يمينه ليصب الماء على يساره وفى نهاية اليوم يحصل على أجره مقابل ذلك، لا الماء الذى على يمينه نقص ولا الماء الذى على يساره زاد، فكل ما نفعله لا لزوم له لمالك البحر، ومالك الكون كله، إنه سبحانه وتعالى لم يستفد شيئا لكنه يعطينا أجورنا لأنه شديد الغنى، على أن أغلب الناس لا يفهمون ولا يستوعبون ولا يتعلمون.. أو انهم لا يريدون ذلك

ولا حول ولا قوة إلا بالله