النفوس المريضة فى عيادات الأولياء
صوت الأمة العدد 136
7/7/2003
خلق الله النفس نقية بيضاء .. يهبها الله لعباده الطيبين .. فمنهم من يصعد بها إلى السماء .. ومنهم من ينزل معها إلى دركات الأرض .. وكل معلق بقدره ومصيره الذى قدر عليه فى اللوح المحفوظ ، تظل النفس على سجيتها حتى يبدأ التكليف.. وهو المطالبة بأداء ما فرض علينا .. فبعد البلوغ يبدأ الثواب والعقاب .
كما ورد فى سنن النسائى الجزء(6) ص(156)
3432- أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا حماد بن سلمة عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة عن النبي ^ قال : ( رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق ). . فالذنب معناه حفرة سوداء فى القلب .. وتظل تتسع حتى تأتى على القلب كله .. فتفض بكارته وتجرح عذريته. كما ورد فى الحديث الشريف في:
المستدرك على الصحيحين للإمام الحاكم – الجزء الأول ،ص (45) :
6/6 – أخبرني أبو النضر محمد بن يوسف الفقيه ثنا إبراهيم بن إسماعيل العنبري ثنا أبو كريب ثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ^ : ( إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب صقل منها فإن عاد زادت حتى تعظم في قلبه فذلك الران الذي ذكره الله عز و جل { كَلاَّ بَلْ بل ران على قلوبهم}.
تتوه النفس فى أنفاق الظلام عندما تتكاثر الذنوب على القلب .. تتجمع عليه مثلما تتجمع الأوساخ على الزجاج فتتسخ من الخارج، مثل مصباح الكهرباء الذى تتكون على سطحه الزجاجى طبقة معتمة فتحجب ضوءه حتى تمحوه، إن ذلك يحدث لنور القلب مع تراكم الذنوب طبقة بعد طبقة حتى يختفى نوره، إن هذه الطبقة السميكة الكثيفة الصلبة التى تحيط بالقلب وتغطيه تسمى ( الران ) يقول سبحانه وتعالى [ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ] (14 المطففين) وتسمى ( الأقفال ) يقول سبحانـه وتعالى: [ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ] (24 محمد)، وتسمى ( الأكنة ) يقول سبحانه وتعالى: [ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّـمَّـا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِي ءَاذَانِنَا وَقْرٌ ] (5 فصلت)، وتسمى ( الحجب ) يقول سبحانه وتعالى: [ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ]
(5 فصلت) وتسمى أيضا ( الأغلفة ) يقول سبحانه وتعالى : [ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ] (88البقرة). القرآن وصف الطبقة الأولى من الخارج من سواد القلب بالنفس الأمارة بالسوء، يقول سبحانه وتعالى: [ وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّى ] (53 يوسف) ويصف الطبقة الثانية التى تليها بالنفس اللوامة، يقول سبحانه وتعالى : [ لَآ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَآ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ] (2،1 القيامة) أى لا أقسم بأحق الحق يوم القيامة ولا بأبطل الباطل .. النفس اللوامة، ثم تأتى بعدها الطبقة الثالثة وهى النفس الملهمة يقول سبحانه وتعالى :[ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْـهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ] (8،7 الشمس) ثم تأتى بعدها الطبقة الرابعة ( النفس المطمئنة ) يقول سبحانه وتعالى : [ يَآ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْـمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ ] (28،27 الفجر). ومعناها ارجعى إلى الصواب، ثم تأتى النفس الراضية وأيضا النفس المرضية وهما تابعتان للنفس المطمئنة يقول سبحانه وتعالى: [ يَآ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْـمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ] (28،27 الفجر) وتبقى النفس الكاملة وهى النفس الأولى الشفافة البلورية النقية التى على الفطرة [فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ] (30 الروم) لكن النفس الكاملة تغيرت بما فعله أصحابها بها، فحاصرت الذنوب القلب وهو الملك، مركز الرئاسة والجوارح أو الحواس هى الرعية أو المملكة، والقلب يصدر التعليمات إلى العقل ليدير الحواس أو الرعية، فإذا كان على القلب تلك الطبقات السوداء العازلة ( الران والحجب والأكنة والأقفال والأغلفة ) إنقطع الاتصال بينه وبين العقل، فيتحول الإنسان إلى إنسان مادى محض، ليس فيه من الروحانية شىء، وهذا يمنعه من الإيمان بالغيب، فلا يصدق إلا ما يراه بعينه أو يلمسه بيده أو يحيط به عقله. ولكل نفس من التى وصفها القرآن خصائص وعلامات، فالنفس الأمارة بالسوء كما هو واضح من اسمها أنها نفس مطاعة على ارتكاب المنكر على طول الخط ويجد صاحبها فى نفسه راحة فى ذلك، ويعتبر ما يفعل نوعا من الجدعنة أو الروشنة، كما يردد شباب هذا الجيل، ولو أزيلت طبقة النفس الأمارة بالسوء لظهرت تحتها طبقة النفس اللوامة، وهى نفس عجيبة يتجسد فيها كل ما فى المحكمة من تناقضات الجريمة والادعاء والدفاع والقضاء فصاحبها يرتكب الذنب أو الجريمة ثم يبدأ فى لوم نفسه وتوجيه الادعاء إليها لكنه سرعان ما يبدأ فى التهوين مما فعل وكأنه يلعب دور المحامى قائلا لنفسه: [إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ] (182البقرة،173البقرة،199البقرة) .. فيمنحه القاضى البراءة أو هكذا يشعر، لكنه سرعان ما يلبث أن يعود لارتكاب الذنب من جديد وهكذا .. لوم بعد لوم وبراءة بعد براءة ثم ذنب بعد ذنب. وبعد أن تزال هذه الطبقة تظهر النفس الملهمة وهى مترددة فى اتجاهين متضادين: الفجور والتقوى [ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ] (9،10 الشمس)، فإذا ما أزيلت تظهر النفس المطمئنة وهى تمشى على استحياء كأن تجد امرأة محتشمة تتباهى بتقواها الظاهرة فى وجود امرأة أخرى ليست بدرجة احتشامها ثم نجد المرأة الأولى ترتكب ما ترتكب سرا، أى أنها حسنة المظهر خبيثة الجوهر، أما تسميتها بالمطمئنة فهو لإظهار عيبها، فصاحبها يشعر بأنه قام بالوفاء بما عليه، لا يرتكب الذنب ولكنه يشعر بأنه فوق الآخرين، ولكنه أفضل منهم، وبعيد عن المؤاخذة اطمئن، ولو كانت النفس المطمئنة حسنة لما قال سيدنا أبو بكر رضى الله عنه بعد أن بشر بالجنة، لا أمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمى فى الجنة، إن صاحب هذه النفس يميل إلى الأمن من مكر الله، فتجده يحدد جوانب فضائله لا فضائل الله ويكتفى بذلك، لكن سبحانه وتعالى يقول عنه: [وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُدِدْتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً ] (36،35 الكهف). ثم تأتى النفس الراضية وعيبها أنها راضية على طول الخط وهذا فى حد ذاته عيب لأنها إذا وفقت للعبادة رضيت وإذا قلت الهمة فى طاعة الله رضيت ولا يجتهد صاحبها ويعزو ذلك إلى إرادة الله [ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللهُ أَطْعَمَهُ ]
(47 يس) إنه التوكل الزائف أى التواكل فإذا أزيلت ظهرت التابعة الأخرى.. النفس المرضية وهى تحمل العيب غير المنظور القبول بما هى فيه، إن نجاحها قد يكون بدرجة مقبول ولكنها لا تسعى إلى تقدير أعلى.
إن هذه النفوس تتكون بذنوبنا، تغطى القلب وتعتمه وتذهب بنقائه وشفافيته ومن ثم فإنها تكون فى حاجة إلى إصلاح .. والذى ترك قلبه يسود عليه أن يستعين بخبير، والخبير هنا هو الولى المرشد يقول سبحانه وتعالى: [مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْـمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً ] (17 الكهف) والخطاب إلى رسول الله فى قوله: ( فلن تجد له ) إذن لابد أن يجد الرسول الولى المرشد ولكن بعد أن يأذن الله سبحانه وتعالى للشخص بالهداية [ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ ] (56 القصص) ، فمن أراد الله هدايته يجد له النبى وليا مرشدا ومن يضله لن يستطيع الرسول أن يجد له وليا مرشدا والأولياء المرشدون هم أهل النظرة بأمر الله ورعاية رسوله يمثلون مراكز الإصلاح والصيانة والعمرة للنفوس البشرية المريضة فالولى المرشد هو الذى يزيل طبقات السواد من على القلب بما لديه من أساليب وطرق، إن عليه القيام بعملية جراحية غير مؤلمة لعلاج النفس المصابة، وهذا هو السر الذى جعل الله سبحانه وتعالى يأمر التلميذ بإطاعة أستاذه، ويأمر المريد بطاعة شيخه .. وهى طاعة مثل طاعة المأموم للإمام فى الصلاة .. ولا تخرج عن كونها طاعة لله، وبعد أن يزيل الشيخ الولى المرشد ما علق على القلب من عتمة وذنوب يعود الإنسان إلى فطرته الأولى وهى النفس الكاملة النظيفة البلورية الشفافة
ولا حول ولا قوة إلا بالله
في تصنيف : لحظة نور في يوليو 21st, 2010