قضية تثير نقاشا لا ينتهي : هل خلق رسول الله قبل سيدنا آدم ؟

صوت الأمة العدد 131
2/6/2003

سنوات طويلة ونحن في السرداب .. كل ما نراه وما نحلم به سراب .. ذقوننا طويلة .. ملابسنا قديمة.. أفكارنا عتيقة .. لم نجرب أن نكسر الأبواب .. أن نغسل الأفكار قبل الثياب .. أن ننفض عن أرواحنا الشقاء والضباب .. أن نستوعب كل كتاب .
منذ ولدنا ونحن محبوسون في زجاجة اللغة المدورة.. فلم نركز من الفقه والشرع إلا على ما يجري في المقبرة .. فهل أصبحت عقولنا محتلة ومستأجرة ؟ .. عشنا في حالة حداد لأن أصواتنا تخرج من حناجر الأجداد .. لم نتصور أن اللغة في حاجة للتحديث .. في حاجة جديدة لشهادة ميلاد . إن كثيرا من الناس يتصورون أن اللغة العربية لغة فضفاضة تهوي التكرار والاستطراد .. هذا خطأ شائع .. وسوء استعمال للغة .. فكل كلمة لها معنى محدد حتى لو تشابهت مع غيرها .. خاصة إذا كانت هذه الكلمة قد جاءت في كتاب الله .. مثلا يختلط الأمر على غالبية الناس بين معنى الكمال ومعني الإتمام .. يقول سبحانه وتعالى : [ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ] (3 المائدة) .. فما الفرق بين
” أكملت ” و “أتممت ” ؟ . لو أخذنا لتر ماء من بئر في واحة سيوة .. ولتر ماء من بئر في صحراء الفيوم . يكون لدينا لتران من الماء مكتملان من كلتا البئرين ..لكن . لو حللنا كل لتر ماء على حدة سنجد أن أحدهما خال تماما من المعادن الضرورية للجسم فيكون غير تام .. يكون مكتملا ولكن غير تام .. وبنفس المقياس ينقسم أهل العلم إلى أهل إكمال وأهل إتمام .. أهل ” أكملت ” يعني أهل ظواهر الأمور .. وأهل “أتممت ” هم أهل البحث في الجوهر .. ومن ثم فليس كل مكتمل تاماً.. وليس كل تام مكتملا .. أما القرآن فقد جمع بين التمام والكمال,, وقد اختار الله لحضرة النبي ^ الإتمام على الإكمال .. يقول سبحانه وتعالى : [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ] (1،2 الفتح) .. الفتح هنا كمال .. والهداية والصراط المستقيم تمام .. ويقول سبحانه وتعالى : [ وَأَتِـمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ ] (196 البقرة) .. بمعنى أن الكمال وحده هنا لا يكفي .. والكمال هنا هو أداء الشعائر الظاهرة .. أما التمام فهو النية في التوجه إلى الله وضرورة أن يكون مال الحج حلالا,, ويقول سبحانه وتعالى لسيدنا إبراهيم عليه السلام: [وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَـمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ] (124البقرة) .. ويقول سبحانه وتعالى:
[ وَتـَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ] (115 الأنعام) .. ويقول سبحانه وتعالى: [نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ] (8 التحريم). إن الله إذا أتم نعمته على عبد رأى شرع الله بقلبه وإذا لم يتمها رأى شرع الله بعقله .. ونحن نقول بلغة العسكرية : كله تمام .. السلاح موجود .. الخطة معدة .. الجنود حاضرون .. كل ما هو ظاهر مكتمل ولكن .. الروح المعنوية وحافـز القتال هو التمـام… ودونهما يصعب القتـال وقد يصعب الانتصار. ما هو ظاهر إكتمال .. وما هو باطـن تمام .. وكثيرا ما يكتفي الناس بالكمال ويتركون التمام .. وهو ما يجعل بعضهم يتجرأ على حضرة النبي ^ .. فقد أخذوا بظواهـر الأمور واعتبروه شخصا عاديا يحتاج كلامه إلى دليل ومراجعة .. وهؤلاء يقولون: ما جاء في القرآن نأخذ به .. وغير ذلك لا نأخذ به .. إن أساس هذا الكلام هو النظر إلى رسول الله ^ بالمنظار العادي الذي ينظر به الناس إلى بعضهم البعض .. ويحدث ذلك على الرغم من أن هناك أشياء تحتاج إلى فهم عميق .. عميق جداً .. لا أحد توقف عند قوله سبحانه وتعالى : [ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ] (1 الفيل) .. أو عند قوله سبحانه وتعالى : [ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ] (6 الفجر) .. أو عند قوله سبحانه وتعالى : [ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ] (258 البقرة) .. أو عند قوله سبحانه وتعالى : [ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ] (45 الفرقان) .. أو عند قوله سبحانه وتعالى : [ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ] (81 الزخرف) .. أو عند قوله سبحانه وتعالى : [ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَآءِ شَهِيداً ] (41 النساء) .. أو عند قوله سبحانه وتعالى للنبي ^ : [ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ] (45 الزخرف) .. وكان النبي ^ يوم نزلت هذه الآية حيا وكان الرسل في حكم الموتى فكيف يسألهم ؟ .. أوعند قوله سبحانه وتعالى: [ لَآ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ] (2،1 البلد) .. ومعناها أنت أولى بالقسم من هذا البلد .. إن كل هذه الآيات تستوجب الوقوف عندها ولو من منطق لغتنا العربية التى أنزل بها القرآن حتى لو لم نكن من أهل التمام ..حتى لو كنا من أهل كمال اللغة دون أن نكون من أهل تمام المعنى .. كل هذه الآيات أسئلة تحتاج إلى أجوبة لابد أن يلتفت إليها حتى الذين يكتفون بالظاهر ويستمتعون بجمال اللغة..فالمعاني هي الجواهر..وحتى نصل إليها لابد أن نوغل في الدين برفق .
وكما ورد فى مسند الامام أحمد ابن حنبل الجزء(20) ص(346) :
13052- قال عبد الله وجدت في كتاب أبي بخط يده ثنا زيد بن الحباب قال أخبرني عمرو بن حمزة ثنا خلف أبو الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة ثنا أنس بن مالك قال قال رسول الله ^ : ( ان هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ) .
.. الدين متين .. لا أحد يغلبه .. علينا التوغل فيه برفق وتبصر وعدم تسرع وعدم دمج للألفاظ بعضها البعض .. نتعامل مع كل شيء بالتقسيط .. أو بالتنقيط .. عندما يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم [ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ] فكأنما يسأله عن الكيفية التي حدثت بها عملية القضاء على الأفيال التى هاجمت الكعبة لهدمها .. لقد كان الرسول ^ طفلا رضيعا في ذلك الوقت فقد ولد في عام الفيل .. فلماذا يسأله عن كيفية حدوث ما حدث ؟ .. ولو كان أهل مكة قد شاهدوا ما حدث للأفيال التي كانت تحترق أمام أعينهم لكنهم لم يكونوا ليعرفون كيف كان ذلك ؟ .. لم يكونوا ليعرفون التفاصيل الدقيقة .. الطير الأبابيل التي تحمل حجارة من سجيل وبدقة تنشين مذهلة كانت تصيب الهدف : الفيل وراكبه فتحيله إلى عصف مأكول .. والعصف المأكول يعني فضلات طعام مأكول ومهضوم ..إن الله يقول للرسول ^ : ألم يحدث أنك رأيت كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟ ولو قال أحد إن النبي ^ ولد في عام الفيل ويمكن أن يكون قد سمع ما جرى .. ورغم عدم دقة هذا التصور لأن الذين شهدوا الحادث لم يعرفوا كيفية حدوثه .. فإننا نتساءل عن أية أخرى : [ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ] .. إن قوم عاد كانوا في زمن قبل زمن النبي ^ .. فكيف رأى ^ ما جرى لقوم عاد وهو لم يكن قد ولد بعد ؟ .. إن التفسير اللغوي للآية يقول : ألم يحدث أن رأيت ما جرى لقوم عاد ؟ .. ألم يحدث أن رأيت الذي حاج إبراهيم في ربه وهو النمرود .. وكان هو وسيدنا إبراهيم في زمن بعيد عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم.. فكيف رأى رسول الله ^ ذلك ولم يكن قد ولد بعد ؟ .. والأمثلة كثيرة في الآيات السابقة .. لكننا نتوقف معا عند الآية التى تقول : [قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ] .. إن أول العابدين هو أول من عبد الله .. وأول من عبد الله لابد أن يكون هو أول من خلقه .. فلا يعقل أن يكون الله قد خلق عبدا ليشرك به .. وهذا هو بالتحديد مفهوم التمام .. رؤية الجوهر لا المظهر .. إن المظهر يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في الترتيب بعد آدم بأزمان .. وجاء بعد كل الأنبياء بأزمان .. لكن الجوهر يؤكد أن الله استثنى النبي ^ من الترتيب الزمني للبعثة أو للبعثات النبوية .. فالمعروف إن أول أولى العزم هو سيدنا نوح ثم سيدنا إبراهيم ثم سيدنا موسى ثم سيدنا عيسى عليهم السلام ثم سيدنا محمد ^ إلا أن الله سبحانه وتعالى يقول : [ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ ] (7الأحزاب) .. وبعدها يقول : [ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ] (7الأحزاب) .. لقد استثنى الله النبي ^ من الترتيب الزمني للبعثة .. وهو ما يعني أنه سبحانه وتعالى أراد أن يقول: هناك فرق بين البعثة والخلق فالأرواح جميعا خلقت قبل الأجساد. وكما ورد فى مصنف ابن أبى شيبة الجزء(19)ص(571) :
 37078-حدثنا وكيع عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب قال :
 خلق الله الأرواح قبل أن يخلق الأجساد فأخذ ميثاقهم .
فكما ورد في المستدرك على الصحيحين (1/457)- الجزء الأول ، ص(628) :
1682/74 – أخبرناه أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى العدل من أصل كتابه ثنا محمد بن صالح الكيليني ثنا محمد بن يحيى بن أبي عمرو العدني ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : حججنا مع عمر بن الخطاب فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال : إني أعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع و لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قبلك ما قبلتك ثم قبله فقال له علي بن أبي طالب : بلى يا أمير المؤمنين إنه يضر و ينفع قال : ثم قال : بكتاب الله تبارك و تعالى قال : و أين ذلك من كتاب الله ؟ قال : قال الله عز و جل : { و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى }(الأعراف172) خلق الله آدم و مسح على ظهره فقررهم بأنه الرب و أنهم العبيد و أخذ عهودهم و مواثيقهم و كتب ذلك في رق و كان لهذا الحجر عينان و لسان فقال له : افتح فاك قال : ففتح فاه فألقمه ذلك الرق و قال اشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة و إني أشهد لسمعت رسول الله ^ يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود و له لسان زلق( فصيح ) يشهد لمن يستلمه( وضع يده عليه ) بالتوحيد فهو يا أمير المؤمنين يضر و ينفع فقال عمر : أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن .
 ولابد أن تكون هناك أرواح خلقت أولا فما المانع أن تكون روح النبي ^ خلقت قبل الجميع وإلا كيف يشهد على الشهداء وهو لم يحضر زمانهم ولم يرهم ؟ .. منطقي أن يأتي الله من كل أمة بشهيد يشهد عليها فقد كان الشهيد حاضرا ويعرف ما جرى .. لكن كيف يشهد النبي ^ على هؤلاء الشهداء وهو لم يكن هناك ولم يعش هذه العصور؟ .. يقول بعض السادة العلماء : إن الرسول ^ يشهد على إخبار الله له فكأنه رأى .. وهو قول لا بأس به .. ولكن هل من الصعب على الله أن يجعل النبي ^ وهو لا يزال روحا أن يمر بهذه الأزمنة كلها ؟ .. إنه أصلا من صلب آدم وترحل نوره في الأزمنة كلها وشهد على أهلها .. ويشهد على الشهداء الذين حضروا مع أقوامهم .. [ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَآءِ شَهِيداً ].. ولابد أن كلمة [ هَؤُلَآءِ ] الشهداء هو إشارة للجمع الحاضر .. وإلا كيف يتسنى أن يسألهم كما يقول سبحانه وتعالى: [ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ ]. لو نظرنا إلى رسول الله ^ بمفهوم التمام والكمال لوقفنا عند حد الأدب خاصة إذا ما وضعنا إرادة الله في الحسبان .. فالنبي لم يخلق نفسه .. ولم يرسل نفسه .. ولم يكن نبيا من نفسه .. ولم يخرق العادة بنفسه .. ولم يفضل نفسه .. بل كل ذلك من الله سبحانه وتعالى .. [ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ] (82 يس) .. ولكن مثل هذه الجواهر لا تدركها إلا فراسة المؤمن .. واتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله . كما ورد فى الحديث الشريف
بسنن الترمذي- الجزء (5) ، ص (278):
3127 – حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أحمد بن أبي الطيب حدثنا مصعب بن سلام عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ^ :(اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ { إن في ذلك لآيات للمتوسمين })

ولا حول ولا قوة إلا بالله