كيف ترضى عن الله؟

صوت الأمة العدد 107
16/12/2002
   

الأفكار السائدة الجامدة الشائعة التي لا يريد أن يتجاوزها أصحابها هي أفكار مصابة بفقر الدم .. أفكار مختوم عليها بالشمع الأحمر .. هي أفكار من خشب جاف .. يأكلها الناس على إنها شهد .. وعسل .. ثم يتعجبون عندما تخرج من أفواههم المسامير والشظايا.. إن من يبلع النار لن يشعر إلا باللهب.
وأشهر الأفكار الخاطئة عن الصوفيين أنهم دراويش .. مهابيل .. مجاذيب .. يقبلون الأمر الواقع ويستسلمون له .. ولا يسعون إلى تغييره .. إن هؤلاء البشر – الذين يهيمون عشقا في نور الله ويتبعون خطوات رسوله ويتلمسون البركة والشفاعة من أهل بيته الكريم – يرون النهار قبل ولادة نور الصباح .. ويشعرون بطفولة الياسمين قبل أن توضع بذرتها.. وتزدهر أغصانها.
ولأن الفارق كبير بين الأمر الواقع من الله والأمر الواقع من البشر إنهم يؤمنون بأن ما يعطيه الله خير .. وما يمنعه خير .. لو أعطانا الله شكرنا .. ولو حرمنا صبرنا .. وهذا هو الرضا بالأمر الواقع .. وهو رضا لا يعنى الاستسلام والخضوع والمذلة .. لكنه يتمثل في غزوات الرسول عليه الصلاة والسلام .. لقد كان رسول الله يعد ويجهز للغزو فإذا انتصر حمد الله وإذا كانت النتيجة غير ذلك صبر دون أن يقنط من رحمة الله.
قد يفسر البعض التوكل تفسيرا خاطئا.. لكن التوكل فسره النبي ^ كما ورد في الحديث الشريف في سنن ابن ماجه – الجزء (2)، ص (1349):
4164 – حدثنا حرملة بن يحيى . حدثنا عبد الله بن وهب . أخبرني ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني قال سمعت عمر يقول سمعت رسول الله ^ يقول: ( لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا).
إن على الطير أن تبحث عن رزقها .. لا أن تظل في أعشاشها ليأتيها الرزق .. تروح وتغدو وتبذل الجهد من أجله .. لكن إن لم تحصل عليه فإنها تصبر على ذلك.إن التوكل هو اتخاذ الأسباب وقبول النتائج والرضا بها .. وهذا هو التوكل الصحيح .. وعدا ذلك لا يعد توكلا .. ويمكن أن نضيف لاتخاذ الأسباب وقبول النتائج والرضا بها عبارة: والفرح بها حسب المرتبة .. فهناك من يفرح بالنقمة كما يفرح بالنعمة .. فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .. وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم .. فالخير قد يتوارى وراء الشر .. والشر قد يتوارى وراء الخير.
وجد سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجلا يقول: اللهم أرضى عنى .. فسأله: يا هذا أرضيت عن الله حتى يرضى عنك ؟ .. فقال الرجل: وكيف أرضى عن الله وأنا الضعيف وهو القوى وأنا الفقير وهو الغنى ؟
فقال الصديق: إن فرحت بالنقمة كما تفرح بالنعمة فقد رضيت عن الله .. إن هذه مرتبة العارفين ،،، الفرح بمولود يوم يولد (فرح بالنعمة) .. ولو فرح به يوم يموت .. وبنفس القدر (فهذا فرح بالنقمة) .. هؤلاء هم الذين [ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ ] (8البينة) .. صدق الله العظيم .. علينا السعي وليس علينا إدراك النجاح .. وكما يقول المثل الانجليزي : صل لله ولكن اجتهد لتصل إلى الشاطئ.
وفى سلة الأفكار السائدة المؤلمة صورة الناس الذين يذهبون إلى المقامات ويزورون أهل البيت ثم تحدث منهم بعض الأشياء التي تبدو غير مستساغة عقلا وعرفا .. كأن يتمسح أحدهم في سور المقام .. أو يقبل الضريح .. أو الأعتاب .. إن هذه الصورة تفتح جدلا واسعا من النقاش يبدو في نهاية الأمر وكأنه حرث في بحر أو طحن لهواء .. وقد يصل هذا الجدل إلى حد الزجر .. وقد يتجاوز الزجر إلى حد التكفير .. فما هو الحكم الشرعي هنا؟.
قبل أن نشرح ونفسر علينا أن نعرف أن طلب الحكم الشرعي لا يكون إلا عن أمور تعبدية .. لكن أن نأتي بأمر غير تعبدي ثم ندخله في الدين أو نقحمه فيه ثم نطلب له الحكم فهو كاللقيط الذي لا يرث .. إن هذا الأمر ليس له في ميراث الشرع شيئا .. فلا توجد عبادة بالتقبيل .. عدا الحجر الأسود.. فليس كل من يقبل ابنه يعبده .. وليس كل من يقبل زوجته يعبدها .. وليس كل من يقبل شيئا يعبد هذا الشئ.
ولو كان التقبيل عبادة لتحدد أعدادها ومواقيتها وكيفية أدائها وكيفية قضاء الفائت منها وتحديد عقوبة تاركها. التقبيل ليس عبادة .. لكنه بلغة العقل أمر لا نأمر به ولا ننهى عنه .. أمر لا يأمر به عاقل ولا ينهى عنه عاقل .. الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقبل الحجر الأسود لكنه لم يأمر بالتقبيل .. عرفنا ذلك من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ففي المستدرك على الصحيحين – الجزء الأول ، ص(626)
1682/74 – أخبرناه أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى العدل من أصل كتابه ثنا محمد بن صالح الكيليني ثنا محمد بن يحيى بن أبي عمرو العدني عبد العزيز بن عبد الصمد العمي عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : (حججنا مع عمر بن الخطاب فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال : إني أعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع و لولا أني رأيت رسول الله ^ قبلك ما قبلتك ثم قبله فقال له علي بن أبي طالب : بلى يا أمير المؤمنين إنه يضر و ينفع قال : ثم قال : بكتاب الله تبارك و تعالى قال : و أين ذلك من كتاب الله ؟ قال : قال الله عز و جل : { و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } خلق الله آدم و مسح على ظهره فقررهم بأنه الرب وأنهم العبيد و أخذ عهودهم و مواثيقهم و كتب ذلك في رق و كان لهذا الحجر عينان و لسان فقال له : افتح فاك قال : ففتح فاه فألقمه ذلك الرق و قال اشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة و إني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود و له لسان ذلق يشهد لمن يستلمه بالتوحيد فهو يا أمير المؤمنين يضر و ينفع فقال عمر : أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا حسن)… وهذه سنة فعلية.
وقياسا على الحجر الأسود فإن الذي يطوف حول الكعبة إذا غلبه الزحام و لم يتمكن من تقبيله بشفتيه يكتفي يلمسه بيده ثم يقبل يده.. فإذا منعه الزحام أكثر مما تطول يده وكان في يده عصا فإنه يلمس الحجر بالعصا ثم يقبل الطرف الذي لمس الحجر .. فإذا منعه الزحام أكثر مما تطول العصا فإنه يشير إلى الحجر بيده ثم يقبل يده.
لقد قبلنا اليد والعصا لنحصل على بركة الحجر الأسود .. قبلنا مثل هذه الأشياء واسطة بيننا وبينه ليس لذاتها .. وهو الشئ نفسه الذي يحدث عندما نقبل مقام ولى أو صالح .. نقبل المقام لأننا لا نستطيع أن نقبل صاحبه مع أن التقبيل ليس شرطا للزائر وفى نفس الوقت ليس محرما بنص وما لم يحرم بنص فهو في حكم المباح وتحريم المباح تشريع بغير نص وحكم بغير ما أنزل الله ولا أزيد (!!!)..

ولا حول ولا قوة إلا بالله