الفجر العدد 166
18/8/2008

بعض الناس يقرآون القرآن وكأن هناك من يطاردهم بسكين حاد . . قراءه متعجلة.. تنتهي بمعان متسرعة . . وفتاوى خاطئة .
هناك مثلاً من يفسر آية [ وَلِله الْأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ] (180 الأعراف) على أن كل أسم بمثابة إله مستقل . . وكأن هناك 99 إلهاً . . لذلك يضيف سبحانه وتعالى :  [ وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ ] (180 الأعراف).
إن السرعة في قراءة كتاب الله والسرعة في تفسيره تفقد الإنسان تركيزه . . فيصعب عليه التوصل إلى المعنى الحقيقي .
والحقيقة أن معاني القرآن تحتاج إلى اتساع مدارك المسلم . . وهو ما يتفق مع ظاهر الإنسان . . وطبيعته . . الإنسان يحتاج إلى عين ليرى الألوان . . وإذن لتسمع الأصوات . . وطعم كى يتذوق الطعام . . وأنف لكي يشم الرائحة . . فمن يفقد حاسة الشم لا يستطيع أن يتخيلها . . ومن ضاعت منه نعمة البصر لا يستطيع أن يميز الألوان . . وهكذا .
بالنسبة للقرآن . . نادراً ما نجد شخصاً يتمتع بكل المدركات التى تؤهله كى يتناول عظمته . . عظمة القرآن فيه صوت لن يُسمِعْ من لا يتمتع بحاسة السمع. . وفيه لون سيغيب عن غير المبصر . . ورائحة لن يتوصل إليها فاقد الشم . . أما الذي يتمتع بكل هذه المدارك فيسمى صاحب المرتبة المرتفعة . . ففوق كل ذى علم عليم .
والخطر أن يتصور من يسمع فقط أنه يرى أيضاً ويتصرف على أنه مبصر . . فيصف ما لم ير. . ويعترض على ما يراه المبصرون . . وهكذا .
ومن يعطيه الله نعمة البصر وهو يقرأ القرآن فقد فتح عليه باباً للعلم . . و من يعطيه نعمة البصر والسمع وهو يقرأ القرآن فقد فتح الله عليه بابين للعلم . . ومن يعطيه نعمة البصر والسمع والشم وهو يقرأ القرآن فقد فتح عليه ثلاثة أبواب للعلم.. و كلما زاد عدد الأبواب التى يفتح الله علينا ونحن نقرأ القرآن كلما أصبحنا في مرتبه أعلى من العلم . . وفي تفسير الآيه نفسها .
آيات القرآن مثل الفاكهه يمكن أن أرى شكلها و أتذوق طعمها لكن لا أشم رائحتها ولا أرى لونها . . فمهما قلت في شرحها فلن أصل إلى سرها وجوهرها.. والذى لديه الإلمام الكامل بالفاكهه هو الذى أعطاه الله كل الحواس ليتعامل معها . . لو كانت حواسه نافصه كان إلمامه غير مكتمل مهما تصور نفسه.
الدين مثل الفاكهه . . كل عالم له رتبه في تذوقها و شمها و رؤيتها . . وفوق كل ذى علم عليم . . ومن هنا لا مبرر لمن يعافر في أشياء ليست له . . وفي تفسيرات لا يقدر عليها . . ولم يمنحه الله القدره و الرتبه عليها . . فمن لا يرى يجب أن يعترف بأنه أعمى . . قاصر في الرؤيه . . لكن . . ذلك لا يحدث عادة..بل يحدث العكس . . حيث يصدق المثل القائل: ” من سمع كذّب من رأى “.
يقول سبحانه وتعالى : [ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ] (36 الإسراء) . . والمعنى أن هناك من أخذ البصر فقط . . وهناك من أخذ السمع فقط . . وهناك من أخذ أكثر أو أقل . . حسب قوله سبحانه و تعالى : [ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ ] (76 يوسف) .
المعروف أن المكعب له ستة أوجه لكن عندما تنظر إليه من أية زاويه لا ترى سوى ثلاثة أوجه فقط . .
مسقط أفقى ورأسى وجانبى . . فهل ما نراه من المكعب فقط هو كل ما فيه ؟ . . هل أقتنعنا بأننا لا ندرك الأمور كامله ؟ . . هل هذا يعلمنا التواضع ونحن نقرأ ونفسر كتاب الله ؟ .
إن منتهى العلم بالنسبه لنا في الغالب هو نصف العلم . . فهناك أمور تظل باطنيه.. لاتراها العين . . مثل المساقط الثلاثه في المكعب التى لا نرى سواها . . وعندما يسمع موسيقار مقطوعه ما قد يرى فيها من الإبداع أو من التخريف ما لا يراه المتلق العادى غير المتخصص . . وعندما يتفرج ناقد فنى متخصص على لوحه سيرياليه سيكتشف فيها ما لا يكتشفه المتفرج العادى الذى لا يرى فيها سوى شخبطة ألوان .
ولو كانت الرسومات والموسيقى تخضع لقانون الرتبه الأعلى في العلم فما بالنا بالقرآن . . لابد أن يغيب فهمه عن رتبة العلم الأدنى .
فشرحه مثل شرح عميان يصفون فيلاً . . كل منهم يصف ما طالت يداه . . فلو طالت يد أحدهم ظهره قال : أنه منحن . . ولو طالت يد آخر ساقه قال : لا بل هو طويل . . وهكذا نجد أن كل أوصافهم و آرائهم متناقضه وفي الوقت نفسه صحيحه في حدود قدرتهم المحدوده و إن كانوا في النهايه قد عجزوا عن بيان لونه و وزنه وجنسه و عمره . . لكن . . الفرق بين هؤلاء العميان وبين العميان الذين يفسرون القرآن أن عميان الفيل لا يكذب بعضهم البعض . . فهم يعرفون أنهم لا يعرفون كل شىء . . أما عميان القرآن فيكذب كل منهم الآخر . . فكل منهم يعتقد أنه وحده المبصر .
يقول سبحانه وتعالى : [ وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ] (19 فاطر) . . والمقصود . . أن درجات العمى لا تتساوى . . ودرجات الإبصار لا تتساوى . . ويقول سبحانه وتعالى : [وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ] (20 فاطر) . . والمقصود . . أن درجات الظلام غير متساويه . . ولا درجات النور . . يقول سبحانه وتعالى : [ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ] (21 فاطر). . والمقصود . . أن درجات الظل غير متساويه . . ولا درجات الحراره.. ويضيف سبحانه وتعالى قائلاً : [وَمَا يَسْتَوِى الْأَحْيَآءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ] (22 فاطر) . . والمقصود . . أن كل الأحياء غير متشابهين . . فهناك أغنياء  وفقراء . . ملوك وصعاليك . . ومثقفون و أميون . . وكذلك لا يتشابه الأموات فيما بينهم .
لو قلنا هذا المعنى فإن هناك من يتهمنا بالخطأ في التفسير . . ويصر على تفسيره الذى توصل إليه . . إنه مثل الذى يصر على أنه لا يوجد سوى التفاح الأحمر . . لأنه لم ير تفاحاً أصفر ولا أخضر .
إن العلم علمان . . علم دراسه وعلم وراثه . . علم الدراسه يسمى العلم الميت. . فهو ينتقل من علماء ماتوا إلى علماء على قيد الحياه . . علم ميت عن ميت عن حى سيموت . . أما علم الوراثة فهو علم يقول عنه سبحانه وتعالى : [ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ] (32 فاطر).
إن علم الوراثه هو هبه من الله . . منحه منه سبحانه وتعالى يمنحها لمن يشاء من عباده الذين إصطفاهم سواء كان ظالم لنفسه أو مقتصداً أو سابقاً بالخيرات . . فالله أعلم منا بالبشر وبأنفسنا.
ويقول النبي الكريم : ( من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم  ) . . فعندما نعمل بما تعلمناه في الدراسة يمنحنا الله علماً لم نتعلمه في الدراسة . .
نتعلمه في المهنة والخبرة والموهبة .
ولا جدال إن إخضاع الدين للمنطق على طول الخط خطأ وإلا كانت تفسيراتنا للقرآن متضاربة وربما متناقضة . . الدين لا يخضع للمنطق على طول الخط . . فالإيمان هو إيمان بما وراء المنطق . . إيمان بالغيب و الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر . . لكن . . في الوقت نفسه فصل الدين عن المنطق ينتهي عاده إلى الشعوذة . 
وبين المنطق الضرورى وعدم الإغراق في المنطق إلى درجة نسيان الإيمان نجد درجات العلم الإلهي التي يمنحها الله من يصطفى من عباده كما يشاء وهو ما يجعلنا نقول ونكرر إن فوق كل ذي علم عليم . . لكن أغلب الناس لا يعلمون

ولا حول ولا قوة إلا بالله

في تصنيف : لحظة نور في أغسطس 11th, 2010