نصوص صحيحة وتفسيرات قاتلة

صوت الأمة العدد 182
24/5/2004

كان المشهد مؤلماً مروعاً مثيراً للشفقة والرثاء.. رجلا ناضجاً فى منتصف العمر لا يظهر منه سوى عينين تنظران إلى ما حولهما بصعوبة.. وشفتين تتحركان بالهمس.. وكأن هناك ما يربطهما بثقل خفى.. ولحية كثيفة تفرض إرادتها على ما تصل إليه.. أما الملامح الأخرى فلا ظهور لها على الإطلاق.. الأنف مكسور.. الجبهة مغطاة بالأربطة الطبية البيضاء.. والجسد كله مدفون فى قالب من جبس سميك.. وكأن صاحبه قد صدمته شاحنة عملاقة وداست عليه هى ومقطورتها.. أو كأنه وقع فريسة فى غابة من الأفيال الجامحة الغاضبة.
تصورت ومن معى انه رجل على باب الله دفعته المقادير للتسول بحثا عن لقمة خبز وقرص دواء وحائط يؤويه.. لكن.. قبل أن يمد كل منا يده فى جيبه ليخرج ما قسمه الله له.. سارع بالاعتراض قائلا: أنا الدكتور فلان الفلانى.. بكالوريوس فى الطب من كلية طب قصر العينى بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف.. ودبلوم فى الجراحة من الكلية نفسها.. وزميل سابق فى كلية الجراحين الملكيين فى بريطانيا.. ولا بد أن سخرية ما فرضت نفسها علينا.. طبيب لا يوجد فيه خلية سليمة.. باب النجار مخلع.. على أن ما لفت النظر أنه كان يردد فى صورة شبه هستيرية جملة واحدة: ضاع الإسلام.. ضاع الدين.
كانت قصته مغرية بالسمع.. لقد استقبل الحياة العملية بعد تخرجه بتفاؤل ونشاط.. لكن.. قرأ بالصدفة الحديث النبوى الشريف الذي ورد في صحيح البخارى – الجزء (4) ، ص (32) :
5680 – حدثني الحسين حدثنا أحمد بن منيع حدثنا مروان بن شجاع حدثنا سالم الأفطس عن سعيد بن جبير: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( الشفاء في ثلاث شربة عسل وشرطة محجم وكية نار وأنهى أمتي عن الكي ).. ما كاد يقرأ هذا الحديث لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظر إلى شهادات الطب الحاصل عليها وكأنها حشرات معلقة على الحائط.. ثم سرعان ما نزعها ومزقها وحرقها وراح يضربها بالحذاء.. لقد شعر أن الطب الحديث الذى درسه وأضاع سنوات طويلة فى عمره يستوعبه لا معنى له.. لا معنى للكشف والأشعة والصيدلية والدواء وغرف الجراحة والتمريض ووزارة الصحة.. وأصبح مقتنعا بأن على زملائه الأطباء أن يمزقوا شهاداتهم العلمية مثله وأن ينقسموا إلى ثلاثة أقسام أو ثلاثة تخصصات.. قسم يتاجر فى العسل.. وقسم يمسك بموس حلاقة.. وقسم يمسك بسيخ حديد محمى بالنار.
لكنه.. قرر أن يبدأ بنفسه.. وراح يعالج مرضاه الذين يترددون على عيادته بالوسائل الثلاث التى اعتبرها وسائل علاج شرعية.. مريض السرطان يعالجه بشربة العسل.. ومريض العيون يعالجه بمشرط الحجامة.. ومريض الروماتيزم بكية نار.. لكن.. لا أحد من المرضى تحسنت حالته.. فأصبحوا فى رأيه مرضى كفرة.. يرفضون الطب الشرعى.. ويصرون على العلاج بطرق الفرنجة.
وورد فى الحديث الشريف فى سنن الترمذى الجزء (4)ص(335-336) :
2038 -حدثنا بشر بن معاذ العقدي حدثنا أبو عوانة عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال : قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً أو قال دواءً إلا داء واحد قالوا يا رسول الله وما هو؟ قال الهرمُ.
وعندما تدهورت حالات بعضهم لم يجدوا مفرا من أن يفعلوا به ما فعلوا.. ضربوه ضربات متتالية موجعة كادت تقضى على حياته.
كان معنا رجل عاقل لا تبدو عليه المظاهر الشكلية للتدين بل كان يرتدى الملابس الإفرنجية.. لا كان معمما ولا كان ملتحيا.. لا كان مجببا ولا كان مصنفا دينيا.. قال له: يا دكتور.. عفوا لهذه التسمية التى تضايقك.. لماذا عندما أصابك ما أصاب لم تستعمل إحدى الطرق الثلاث فى العلاج؟.. لماذا استعملت الجبس والجبيرة والمسكنات والقطن والشاش والمطهرات؟.. لماذا استعلمت هذه الوسائل وليس بينها شربة عسل ولا شرطة حجامة ولا كية نار؟.. لم يعد للطبيب السابق حيلة فى الرد وقال: الضروريات تبيح المحظورات؟.. ارتفع صوت من بين الحاضرين قائلا: استحالة أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث!.. قال الرجل غير الملتحى: إننا إما نفهم الحديث النبوى خطأ، يا ننكره إذا لم نعرف له تفسيراً.. أرى أن هذا الحديث صحيح ولا غبار عليه.. أما الذى صنع المشكلة فهو الفهم والتفسير الخاطئ للنص الصحيح.. هنا مربط الفرس.
شد الرجل غير المصنف دينيا الجميع بكلامه العذب عن سيدنا رسول الله.. انتبهنا له أكثر.. ولتفسيره للحديث النبوى الذى لم ينجح فى تفسيره الطبيب فكان ما كان له ولمرضاه.. قال الرجل مفسراً: إن شربة العسل هى إشارة إلى أن العلاج يكون بأشياء تشرب.. ولا يشترط أن يكون الشرب مقتصرا على العسل.. بل إن كلمة عسل قد تكون صفة لما يشرب.. أى أن ما يشرب علاجا هو عسل سواء كان ما يشرب مرا أو حلوا.. فحتى الشربة المرة هى نوع من العسل بالنسبة للمريض الذى يحتاجها كدواء.. فما يدفع الإنسان للمر هو الأمر منه.. وقول رسول الله شرطة محجم إشارة إلى قبول فكرة التدخل الجراحى بالمشرط بجميع أنواعه.. وكية نار إشارة إلى ما يوصف فى عصرنا بالليزر الذى يفتت حصوة الكلى وحصوة الحالب وحصوة المرارة.
وراح الرجل يفسر أكثر: إن قوله عليه الصلاة والسلام شربة عسل تعنى ” كما تشربون العسل”.. وقوله شرطة محجم تعنى ” كما تشرطون بالحجامة”.. وقوله كية نار تعنى.. أى “كما تكوون بالنار”.. إن الطب الحديث لم يخرج عن العلاج بهذه الطرق الثلاث.. وما لم يرد به نص فهو من لوازمها مثل القطن والشاش والبلاستر والتمريض والمسكنات والمهدئات وغيرها.
شعرنا براحة عميقة والرجل – غير المصنف دينيا – يشرح لنا الدين ويفسره دون مؤثرات صوتيه وبصرية فى اللبس وطريقة النطق واللحية.. فلا لبس دينياً كما يصر البعض وإلا كان هناك أيضا أكل دينى وشرب دينى وسرير دينى.. ولو خلع أولئك الذين يصرون على اللباس الدينى ما يلبسونه ليلا ويرتدون مثل ما نرتدى فهل يعنى ذلك أنهم خرجوا من دينهم؟.. هل يعنى ذلك ان الزى الدينى مثل الزى الرياضى نلبسه فى المعلب ونخلعه فى خارجه.. ومثل الزى العسكرى نلبسه فى الوحدات القتالية ونخلعه خارجها؟.. إن الزى الذى يرتديه البعض ويعتبرونه دينا لا عيب فيه ولكن لا يجوز أن يكون حجة على الدين ولا يجوز أن يرمز إلى شئ نحاكم به الذين لا يرتدونه.. لقد فسر الطبيب المكسور الحديث النبوى الشريف على مزاجه الخاص وبصورة سطحية خاطفة.. وهنا الخطأ.. فى التفسير الذى كان تفسيرا خاطئا لنص صحيح.. لا عمق فيه.. ولا يخضع للقاعدة الشرعية السليمة : إن ما قاله النبى عليه الصلاة والسلام صالح لكل زمان ومكان.. لكن.. بقدرة على الاجتهاد الواعى.. وعدم تقيد بحرفية الكلمات.. وإنما بمعانيها.. لا تغيير فى النص.. لكن.. تطوير فى فهمه.. وحسن ظن بالنبى الكريم الذى لا ينطق عن الهوى.. إن هو إلا وحى يوحى.
النبى لا يخطئ.. والخطأ فى فهمنا لما قال.. وتسرعنا فى تفسيره .. هو ما فعله الطبيب المصاب الذى ابتسم لأول مرة وقال: لو أن الله أكرمنى بالشفاء ووجدت كل المرضى الذين ضربونى وكسرونى فسوف أعتذر لهم لأننى لن أقترب مرة أخرى من فكرالتعسير الذين لا يعملون به وسأعتنق فقه التيسير الذى يريح الناس جميعا ولا يخرج بهم عن حدود الشرع.. ولم نجد ما نقوله بعد ذلك سوى

لا حول ولا قوة إلا بالله