قانون السماء يحمى المغفلين

صوت الأمة العدد 193
9/8/2004

يبدو أن كل شىء فى حياتنا أصبح خاطفا . . عابرا . . متسرعا . . غائما . . تغطيه سحب كثيفه تخفى حقيقته . . فنراه كما نهوى . . و كما نشتهى . . وفى عصر تنتقل فيه الصوره و المعلومه بسرعه الليزر يصبح الخطأ صوابا . . و النميمه حقيقه . . إنها أسوأ جريمه .
و يمكن التسامح فى هذه الطريقه فى التفكير و التفسير – التى سيطرت على عقولنا – لو كان الأمر يتعلق بشأن من شئون الدنيا . . فهى شئون متغيره . . تكنس نفسها بنفسها . . و يفرض ما هو قادم إرادته على ما هو قائم . . لكن . . لا يمكن التسامح فى هذه الطريقه لوكان الأمر يتعلق بشأن من شئون الدين . . فهى شئون مستقره . . تؤكد نفسها بنفسها . . و يساند ما هو قادم ما هو قائم .
فلو بنى أمر من أمور الدين على خطأ فى الإجتهاد لوجدنا أنفسنا صرعى لمن يتصورون أنهم يرفعون راية الجهاد .
أكبر خطأ نعانى منه . . الخطأ فى فهم عبارة الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر . . فما إن نسمعها حتى نتصور ذلك المطوع السعودى الشرس الذى يمسك بعصا يضرب الناس بها ليدفعهم بالقوه إلى تأدية الفروض دون أن يفكر هو نفسه فى تأديتها . . و شاعت تلك الصوره . . و فرضت نفسها على كل من يعتلى منبرا . . و يلقى موعظه. . و يسجل درسا دينيا أمام كاميرات التليفزيون . . ثم أستقرت الصوره الخاطئه نفسها فى يقين و وجدان ملايين المسلمين . . فكان الإرهاب . . و كان العنف . . و كانت ملامحنا المشوهه فى كل الدنيا .
إن” الأمر” بشىء غير” الدعوه ” إليه الدعوه تكون الموعظه الحسنه . . بالإقناع . . بالقدره على التأثير . . [ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ] (125 النحل) . . و الدعوه قد تفلح . . و قد لا تفلح . . قد يأتى من ندعوه . . و قد لا يأتى . . [ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ ] .
أما الأمر فيلزم له سلطه لتنفيذه . . لكن . . ما دامت السلطه ضروره لتنفيذه . . فلا بد أن تكون هذه السلطه حكيمه . . فلا تصدر أمرا يصعب تنفيذه . . أو تصدر أمرا يؤدى إلى الهاويه . . فلا يمكن لضابط مثلا أن يأمر جندى مشاه بقيادة طائره حربيه . . و لا يمكن لطبيب مثلا أن يأمر سائقه بإجراء الجراحه بدلا منه . . و لا يمكن لرئيس الحكومه أن يأمر وزير الأوقاف بقيادة القوات للقتال. . و هكذا.
لا يمكن أن نأمر شخصا بما لا يعرف . . لا يمكن أن نأمره بما ينكر . . لا بد أن نأمر شخصا بما يعرف . . و المعرفه هنا تعنى الإستطاعه . . تأمره بالمعروف . . أى تأمره بما يعرف .. تنهاه عن المنكر . . تنهاه عما لا يعرف . . تنهاه عما ينكره . . لا تدفعه إليه . . و هى قاعده فى الحياه كما هى فى الدين . .
حسب الأمثله التى مرت . . و لو كان شخصا لا يعرف فيجب أن تقوم بتعريفه قبل أن تأمره. . و إلا يكون أمرك غير معروف لديه .
لقد وضع النبى صلى الله عليه و سلم قاعده شرعيه فهمت خطأ . . و جعلت كل من هب و دب يأخذ سلطة الأمر دون أن يعطيها له أحد . . ثم يأمر الناس بما يعرفون و بما لا يعرفون . . أو بعباره أدق . . يأمرهم بما يعرف هو . . و كأن ذلك يكفى . . و هو بالقطع لا يكفى. فلا مجال لإستخدام السلطه فى الأمر إلا فى حدود ما يعرف من نأمره . . يجب أن يعرف منفذ الأمر ما هى طبيعة الأمر قبل أن نأمره به . . نعرفه ثم نأمره. . ساعتها يمكن القول : ” إنه أمر بمعروف ” . . و على العكس تماما . . لو كان هناك من يسعى إلى القيام بعمل لا يعرفه . . أمر غير معروف . . أمر ينكره فلننهاه عنه . . و هذا هو النهى عن المنكر .
لو كان هناك جاهل بمهنة الصحافه و يريد أن يغطى حربا فى فلسطين . . و جب علينا أن نمنعه عن ذلك الأمر الذى ينكره . . أى لا يعرفه . .  يقول سبحانه و تـعالى : [ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ] (36 الإسراء).
أذن المعروف هو ما نعرف . . و المنكر هو ما لا نعرف . . نقول رجل معروف أى رجل يعرفه الناس . . وزير . . رئيس . . مقدم برامج فى التليفزيون . . رجل منكر أى رجل ينكره الناس . . أى لا يعرفونه . . و يمتد التعريف لما هو أبعد . .
( فقد تنكر العين ضوء الشمس من رمد . . و ينكر الفم طعم الماء من سقم . . و تنكر الأذن صوت الرعد من صمم ). . و يقول سبحانه و تعالى : [ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ] (83النحل) . . و هو ما يعنى أن النكران عكس المعرفه .
و يقول سبحانه و تعالى : [ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ] (132 طه) . . معناها علمهم الصلاة أولا حتى يعرفونها و يعرفون قواعدها و أصولها و أحكامها و مبطلاتها . . بعد أن يكون معروفا لديهم تأمرهم بها . . و فى تلك اللحظه تكون قد أمرتهم بمعروف .
و كثيرا ما نجد شخصا يفتى بغير علم . . يفتى بما لا يعرف . . يفتى بما ينكر . . تكون فتواه فى منكر . . و يجب علينا أن ننهاه عن ذلك . . فهو يفتى بغير علم بما لا يعلم . . و الحكمه فى العلم هى عدم إستخدام سلطة الأمر إلا فى حدود ما يعرفه المأمورون . . و إلا يكون الأمر فى هذه الحاله هو أمرا بمنكر . . أمر بما ينكرونه . . أى بما لا يعرفونه . . و بهذا المعنى الذى نثق فيه يكون الأمر بالمعروف لا يقتصر على الأحكام الدينيه فقط و إنما يمتد إلى كل أمورنا الحياتيه . . فلو كنت صاحب عمل لا تأمر عمالك و موظفيك إلا بما يعلمون . . لا تأمرهم بشىء يجب أن تتأكد قبل ذلك أنهم يعرفونه . . أنه معروف لديهم . . لا نقول للساعى إستخرج برنامجا على الكمبيوتر . . لا نقول للمهندس تول علاج زملائك . . لأن ذلك سيكون أمرا بمنكر . . لا يعلمونه . . و سيكون أمرك نوعا من التعسف فى إستخدام السلطه . . أو يكون إستخداما لها يخلو من الحكمه .
بل عليك أن تفعل فى حالات كثيره العكس . . لو طلب الساعى إستخراج برنامج الكمبيوتر المنكر و غير المعروف لديه عليك بنهيه . . و لو طلبت من شخص أن ينزل البحر لإنقاذ طفل يغرق . . عليك أن تسأله هل يعرف العوم ؟ . . لو كان يعرفه تكون أمرته بمعروف . . و لو كان لا يعرفه تكون أمرته بمنكر . . و لو أصر على نزول البحر رغم جهله بالعوم فيجب أن تنهاه عن ذلك . . و هنا يكون نهيك هو نهيا عن منكر .
يقول سبحانه و تعالى : [ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِىٓ إِسْرَآءِِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ] (79،78 المائدة) . . فقد كان الواحد منهم يرى غيره يقدم على شىء لا يعرفه و منكر بالنسبه له و يتركه . . لذلك يقول النبى ^ في الحديث الشريف الذي ورد في
صحيح مسلم – الجزء (3) ، ص (1675) :
114- ( 2121 ) حدثني سويد بن سعيد حدثني حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء ابن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي ^ قال : (  إياكم والجلوس في الطرقات ) قالوا يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها قال رسول الله ^ : (فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه ؟ قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .
وغض البصر ليس إغلاق العين . . و المقصود به أن يكون البصر غير جارح . . غير جارح فى كل شىء ليس النساء كما هو شائع . . فالعين خلقت لأشياء كثيره يجب غض البصر عنها غير النساء  . . يجب غض البصر عن كل نعمه تخص غيرك . . حتى لو كانت سياره . . أو نظاره . . أو تليفونا محمولا . . فغض البصر فى هذه الحاله يمنع اللسان من التفوه بما لا يليق . . معناه ترك الناس و شأنهم . . و فى الوقت نفسه يجب أن أفعل ما يقنع الآخرين بغض البصر عنى . . فلا البس أو أستخدم ما يلفت النظر . . أما كف الأذى فهو أن أفعل ما يمنع أذية غيرى و يمنع أذيتى . . و رد السلام ليس فقط بالكلام و إنما أن أكون مصدر سلام . . فى موقف سلام مع الآخرين .
أما الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فمعناه كما قلنا أن نأمر بكل ما هو معروف للناس . . و ننهاهم عما لا يعرفون ننهاههم عما ينكرون . . أو ما هو بالنسبه لهم منكر . . فلو وجدنا من يحمل حقيبه لا يعرف ما فيها نهيناه عن حملها . . فربما كانت معبأه بالمخدرات أو المتفجرات . . نهيناه عن ذلك المنكر . . و على ذلك لا نأمر أحدا إلا بمعروف . . أى بما يعرف . . و لا نأمره بما ينكره . . و نأمره بألا يفعل إلا ما يعرفه .
إن هذا الإجتهاد فى التفسير يخالف ما وصل إلى الناس و أستقر عن الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر . . و ما أستقر جاء نتيجة سرعه فائقه تفهم بها الأحاديث النبويه الشريفه .. و هو أمر لا يعقل . . فالنبى ^ أوتى جوامع الكلم . . الكلم الذى يعطى معنى فى كل وقت . . وبين نوعيه من البشر .
يقول سبحانه و تعالى : [ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ] (110 آل عمران) . . و المقصود أن قاعدة ألا نأمر إلا بما نعرف لا تنطبق على الله . . فلا أحد منا يعرف الله . . و طبقا لقاعدة لا نؤمن إلا بما نعرف يكون علينا ألا نؤمن بالله لأننا لا نعرفه . ؛. و لذلك كان سياق الآيه الكريمه [ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ] . . و يقول الله على لسان النبى الكريم : [ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ] (113 النساء) . . فالله علم رسوله ما لم يكن يعلم . . إذن فلا شىء منكرا على رسول الله . . كل شىء هو معروف لديه . . و بعد أن علمه الله ما لم يكن يعلم ؛ أمره بعد ذلك بما يريد .
إن القانون البشرى الوضعى لا يحمى كما هو معروف المغفلين . . فعدم العلم بالقانون . . ونكرانه لا يمنع من وجوده و تطبيقه . . فالقانون البشرى يحاكم من يعلم و من لا يعلم . . أما القانون الإلهى فهو لا يحاكم و لا يحاسب إلا من يعلم به . . فهو يحمى المغفلين لا يحاسب إلا من يعرف و من يستطيع و هذا هو الفرق بين رحمة الله و جبروت البشر

ولا حول و لا قوة إلا بالله