لماذا نسخت آيات من القرآن بآيات أخرى ؟
صوت الأمة العدد 143
25/8/2003
أستأذنكم في الخروج من هذا الزمن الضيق . زمن التفسيرات .. الخفيفة .. السطحية الجاهزة .. وكأنها كمبيالات مستحقة الدفع .. أو كأنها شيكات بدون رصيد علينا سدادها .. إن الذي لا يعرف عليه أن ينسحب .. فليس شرطا للإيمان أن يفتى الإنسان إذا ما سئل في أمر من أمور الدين .. ليس شرطا أن يكون عالما .. فقيها .. ومن قال لا أعرف فقد أفتى .. ومن عاد إلى شيخه ومعلمه فتح الله عليه بالثبات في مواجهة الذين يصطادون في المياه العكرة. لقد أزعجني أن يتورط شباب ممن يسمون أنفسهم بالجماعات الإسلامية في مناقشة أمور حساسة ودقيقة في الدين بدعوى الدفاع عن الدين .. فكانت النتيجة أنهم أساءوا إلى الدين .. فقد أخذوا من أموره قشورها .. فكانت أية رياح ولو خفيفة كفيلة بالقضاء عليهم. قرأت من يقول لهم: إن الناسخ والمنسوخ في القرآن يعني أن الله يقرر شيئا ثم يرجع فيه .. فما هذا الدين الذي يأتي بآيات ثم يشطبها .. وقد استخدم هذا المنطق الشكلي المجرد من الفهم والاستيعاب في توجيه سهام بدت قاتلة .. رغم أن من السهل – بقليل من العلم وبقليل من الشفافية وبكثير من الثقة – تفسير الناسخ والمنسوخ. يقول الله سبحانه وتعالى : [ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ ] (106 البقرة) .. وهو ما يؤكد وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن .. لكن الناسخ والمنسوخ ليس في الأديان فقط .. هو جزء أصيل من طبيعة الحياة .. فنحن إذا ما وجدنا قانونا لا نقدر على تنفيذ أحكامه طالبنا السلطة التشريعية بتغييره أو تعديله .. وإذا ما صدر حكم بعقوبة مشددة من محكمة تظلمنا منه لتخفيفه .. وعندما يغفر الله ذنبا لعبد استوجب عذابه هو نسخ للذنب .. إن الله هنا ألغى حكم العقوبة واستبدله بالعفو .. فهل رجع الله في كلامه .. استغفر الله .. إن نسخ حكم العقوبة بحكم المغفرة فيه رحمة. وإذا كلف عبدا ثم خفف الله عنه التكليف فإنه لا يعتبر رجوعا وإنما يعتبر رحمة .. يقول سبحانه وتعالى: [ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ] (178 البقرة) .. إذا قال الله لنبيه ^ إن أمته محاسبة على ما يخطر ببالهم ولو لم يفعلوه . فهذا حكم شديد .. فإذا ما خفف الله هذا الحكم بعد ذلك ألا يعتبر التخفيف رحمة ؟ .. قال سبحانه وتعالى : [ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ] (284البقرة) .. هذا هو الحكم .. فلما شق ذلك على صحابة رسول الله ^ لم يعترضوا ولم يتذمروا ولم يتظاهروا ولم يرفضوا .. ولكن قال لهم النبي ^ قولوا:
[ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْـمَصِيرُ ] .. هنا تدخلت الرحمة الألهية فقال الله سبحانه وتعالى بعدها : [ ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْـمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللهِ وَمَلَآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ] ( وهذا أدب المسلم وميزة المسلمين ) [ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْـمَصِيرُ ] (285 البقرة) .. فكان التخفيف في آخر سورة البقرة: [ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ] (286 البقرة) .. هل يعتبر ذلك رجوعا في كلام الله كرجعة أحدنا ؟ .. إن أحدا منا لو رجع في كلامه أو في حكمه فإنه يفعل ذلك عن ضعف أو تحين لفرصة أخرى .. لكن لو كان الأمر يتعلق بالله سبحانه وتعالى فإنه رجوع فيه رحمة .. ورحمة الله سبقت غضبه .. فالعفو عند المقدرة غير العفو عند العجز . إن كل الآيات التي نسخت إنما نسخت بشفاعة النبي ^ .. فما نسخت أية رحمة استبدل الله بها أية عذاب .. بل العكس هو الصحيح .. كل الآيات التي نسخت كان فيها مشقة واستبدلها الله بآيات الرحمة. والناسخ والمنسوخ دليل قدرة مطلقة .. فلو كان أحدنا قادرا على أن يكتب ولا يستطيع أن يمحو ما كتب فهو دليل نقص .. إن الله هنا يبرز قوته وقدرته .. فيقول : يا عبادي أنا قادر على عذابكم .. ولكني أرحمكم ليس لقوتكم وليس لاستحالة تنفيذ حكمي ولكن لشفاعة حبيبي محمد ^ .. يقول سبحانه وتعالى : [ يَمْحُواْ اللهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ] (39 الرعد) .. ولو لم يكن الأمر متعلقا بقدرة الله على المحو والإثبات لما كان هناك داع لدعاء أو إبتهال .. لكان عقاب الله أمرا نافذا وحكما لا رجعة فيه. فلو أصيب إنسان بمرض فنحن نبتهل إلى الله كي ينسخ حكم المرض بحكم الشفاء .. ولو كتب الله الفقر على شخص فهو يدعوه أن ينسخ حكم الفقر بحكم الثراء .. وهكذا في الظلم .. والضعف .. وكل ما يبتلى به الانسان .. وهنا يكون الدعاء قادرا على نسخ الأحكام .. ولو كانت الأحكام من إله غير الله لما استطاع الله أن ينسخها كما هو الحال في العلاقة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية .. فالسلطة التنفيذية ملتزمة بتنفيذ ما سنته السلطة التشريعية .. فلو كانت السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية سلطة واحدة كالسلطة الإلهية لما كانت هناك ازدواجية .. فالله سبحانه وتعالى يقول لنا : أنا رب العالمين أضع حكما ثم أنسخه لمصلحة العباد .. فلا عيب على البشر إذا ما وضعوا قانونا أو سنوا تشريعا أن يغيروه إذا ما وجدوا فيه إجحافا وظلما .. لا عيب أن ينسخوه بقانون آخر يناسبهم ويناسب ظروفهم .. لا حرج في إلغائه .. مثل قانون لمنع الاستيراد في ظروف ما. ثم إلغاؤه بعد تغير هذه الظروف .. ومثل قانون يثبت سعر العملة في ظروف ما ثم إلغاؤه بعد تغير هذه الظروف. إن الناسخ والمنسوخ جعله الله بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم رحمة بعباده لا عجزا ولا نسيانا .. لم يكن سبحانه وتعالى عاجزا عن تنفيذ ما أمر به .. ولم يكن ناسيا ما أمر به ثم تذكره .. حاشا لله .. وإنما هو تذكير للعباد بقوته ثم برحمته. والناسخ والمنسوخ على أربعة ضروب .. إما أية نُسخت نصا وحكما أو أية نُسخت نصا وبقيت حكما .. أو أية نُسخت حكما وبقيت نصا .. أو أية بقيت نصا وحكما. وعلى ذلك خفف الله سبحانه وتعالى الصلاة من خمسين صلاة إلى خمس صلوات وإن ابقىعلى
ثواب الخمسين صلاة. وحتى يعلمنا الله سبحانه وتعالى أن نكون رحماء بأنفسنا وضع قواعد للقصاص: [ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ] (45 المائدة) ثم قال سبحانه وتعالى: [ فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْـمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ] (178 البقرة). ومن ثم فإن كلنا يتمنى الناسخ والمنسوخ .. في حكم الإعدام نتمنى نسخه بالتخفيف .. وفي مجاميع كليات القمة المرتفعة نتمنى نسخها بتخفيف المجاميع التي تقبلها .. وهي طبيعة البشر أن يسألوا الله التخفيف .. هي الفطرة البشرية .. البرد الشديد نريد نسخه ببعض الدفء .. الحر الشديد نريد نسخه ببعض الهواء الرطب .. الظلم نريد نسخه بالعدل . يقول سبحانه وتعالى: [ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ] (20 المزمل) … ثم يقول الحق: [ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِّنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ] (20 المزمل) .. وليس التيسير في قراءة القرآن فقط وإنما في العبادات الأخرى .. فالحائض والنفساء معفية من الصلاة ولا تعيد .. وهي معفية من الصوم على أن تعيد .. مثلا .. [ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُّ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ] – 185 البقرة
ولا حول ولا قوة إلا بالله
في تصنيف : لحظة نور في يوليو 22nd, 2010