عنزة وإن طارت
صوت الأمة العدد 142
18/8/2003
كان الحوار ساخنا .. حادا .. يكاد يقترب من مرحلة نقر الديوك .. فالكلمات خناجر .. والآراء سيوف .. والمقاعد التي يجلس عليها الضيوف أشواك ومسامير .. والديكور مشانق وميدان رماية وضرب نار .. والمذيع الذي يتوسط الطرفين كأنه حكم في مباراة ملاكمة من الوزن الثقيل .. أو مباراة مصارعة حرة .. لا حدود لها .. ففيها من العض والقرص والضرب أكثر مما فيها من كلام وتفاهم وسلام .. هذا ما يحدث عادة في برامج الحوار التليفزيونية التي تعرف بالتوك شو .. أو مسرح منوعات الكلام .. وهي برامج يصفون ما يجري فيها من باب الأدب النقاش .. وأحيانا يتجرأون ويدعون أنها مناقشة .. وهي في الحقيقة مجادلة .. أو مكابرة . إن ذلك يحدث في البرامج التي يتباري فيها المختلفون والمتناقضون في كل شئون الحياة والدين .. فكل طرف يأتي وهو مغلق العقل عن سماع الطرف الآخر .. وكل طرف يتصور أن قبول رأى الطرف الآخر هزيمة ساحقة ستنتهي به إلى العار أو القبر .. أيهما أقرب .. لذلك فالنصيحة الغالية هنا أن تعرف معاني الكلمات قبل أن تصاب بصداع مثل هذه البرامج والحوارات . إن المناظرة يجب أن تكون بين طرفين عالمين وبينهما طرف ثالث يرتضيانه حكما ولا يتكلمان إلا بإذنه ويقبلان في النهاية حكمه.. ولو ردوا ما يقولون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأهـل الخبـرة لكانت تـلك مرجعيتهم الحاسمة الراقية. لنرى مثلا على ذلك فى قاعات العدالة .. في المحاكم .. إن الادعاء طرف وهو عالم بما يقول .. والدفاع طرف آخر وهو خبير بما يقول .. هما عالمان وخبيران بالقانون.. والقاضي هنا هو الطرف الثالث الذي يرتضيان حكمه وهو أعلم منهما .. وهو أيضا الحكم فيما بينهما .. وهو يستمع جيدا لما يقدمه الادعاء من اتهامات ويقيم الأدلة والأسانيد عليها وفي النهاية يطلب الإدانة .. ويستمع جيدا لما يقوله الدفاع من ردود ويقدم الحجج والبراهين عليها .. وفي النهاية يطلب البراءة .. ويفوض الطرفان الأمر للقاضي الذي يناظر بينهما .. ثم يصدر الحكم بحياد تام .. هذه هي المناظرة . والمناظرة غير الحوار .. فالحوار يدور بين طرفين يجلب كل منهما للآخر حقيقة غابت عنه دون أن يكون عنده هوى ذاتي أو مأرب شخصي .. يقول سبحانه وتعالى : [ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ]
(37 الكهف) .. فالحوار هنا يكشف لشخص كفر بالله عن حقيقة ربما تجاهلها أو تناسها وهي أن الله خلقه من نطفة وسواه رجلا .. ولو قبل هذا الرجل هذه الحقيقة فإن الحوار يكون قد أثمر معه .. فشرط الحوار تقبل حقائق غائبة ومجهولة يؤدي كشفها إلى التغيير. والحوار غير الجدال .. الجدال – والعياذ بالله – يقع بين طرفين عند كل منهما ولكل منهما مأرب .. كل طرف يريد أن ينتصر لنفسه .. لا للحق .. أو يريد أن ينتصر ولو على حساب الحق .. يقول سبحانه وتعالى: [ وَلَا تُـجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ] (46 العنكبوت) .. والتي هي أحسن هي البصيرة. ويستثنى من ذلك رسول الله ^ فى قوله تعالى: [ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ] (125 النحل) والجدال غير المكابرة .. المكابرة هي أن يكذب طرفا الطرف الآخر رغم علمه بصدق ما يقول صاحبه ولو رأى الحق بأم عينه .. يكتمون الحق وهم يعلمون ..
ويقول الرسول ^ في الحديث الشريف الذي ورد في سنن الترمذي – الجزء (5) ، ص (32) :
2654 – حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي البصري حدثنا أمية بن خالد حدثنا إسحق بن يحيى بن طلحة حدثني ابن كعب بن مالك عن أبيه : قال سمعت رسول الله ^ يقول : ( من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار ) .
وفي سنن ابن ماجة – الجزء الأول، ص (93) :
253 – حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا حماد بن عبد الرحمن ، حدثنا أبو كرب الأزدي عن نافع عن ابن عمر عن النبي ^ قال: ( من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار ).
والمكابرة غير المراء.. المراء أن يكذب طرف الطرف الآخر وهو لا يعلم .. [ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ ] (39 يونس) .. كما كذب أهل مكة رسول الله ^ وأخذوا يمارونه على ما يرى .. [ أَفَتُمَـارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ] (12النجم). وربما كان علينا أن نخفف مما نقول فنروى قصة مثيرة .. قصة رجلين مبصرين لهما صاحب أعمى .. كان الثلاثة يسيرون معا .. فرأى المبصران سوادا من بعيد .. فقال أحدهما : إنه طائر أسود والله أعلم .. وقال الآخر: إنه عنزة سوداء .. والله أعلم . وقال الأعمى : أعتقد .. بل أجزم أنها عنزة سوداء .. وما قاله هو المراء بعينه .. ولما وصلوا إلى مكان قريب من هذا الشيئ وجدوه نسرا كبيرا أسود اللون .. فرد جناحيه .. وطار.. فقال الأول : الآن صح كلامي .. فهو طائر .. وقال الثاني : هي عنزة وإن طارت .. ضاربا المثل في المكابرة .. وقال الأعمى : صدقت ضاربا المثل في المراء : ليتنا ننأى بأنفسنا عن هذا الجدال والمراء والمكابرة .. ونترك المناظرة لأهلها
ولا حول ولا قوة إلا بالله
في تصنيف : لحظة نور في يوليو 22nd, 2010