يد الخلق ويد الخالق..عين العبد وعين الله

صوت الأمة العدد 114
3/2/2003

شغل السندباد طفولتي كثيرا كما شغل أطفال كل العالم .. إنه ليس شخصية أسطورية لا نجدها إلا في كتب التراث .. وليس شخصية روائية تجلب لنا التسلية .. وليس واحدا من الممثلين المحترفين على مسرح ألف ليلة وليلة ..أو سائحا أمريكيا يرى العالم من خلال الكاميرا ودفتر شيكاته .. إنه في تصوري رمز مهم لتخلص العقل من حدود المكان والزمـان ونزوعـه إلى المطـلق المستمر بحثا عـن الأجمل والأنبل والأفضل .. هو ثورة على المعلوم والمحدود.
ولو كان السندباد في مرحلة فوران الجسم هو رمز المغامرة المجهولة نحو الجغرافيا البعيدة فإنه في مرحلة استقرار الإيمان هو رمز التفتيش بدقة عما خفى علينا وصعب من فكرة ونظرة حتى نشعر بالصحة العقلية والعافية النفسية.
إننا نعرف أن الله سبحانه وتعالى منزه عن الحواس .. ولا يقاس بما يقاس به الناس .. ولكننا نجد في كتابه الكريم ما يشير إلى يد ويدين وأيدي وعين وأعين ونفس وإستواء ونسبها القرآن إلى الله .. ففي قوله تعالى: [ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ] (64 المائدة) .. وفي قوله تعالى: [ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ] (47 الذاريات) .. ووردت العين في قوله لموسى: [ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ] (39 طه).. ووردت النفس فى قوله: [ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى ] (41 طه).. وقوله تعالى عن سفينة نوح: [وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ] (14،13 القمر).. وقوله سبحانه سبحانه وتعالى: [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ] (5 طه). كل ذلك .. وغير ذلك مما يشبه ذلك.. جعل المجال مفتوحا أمام التشبيه إلا ما يأباه ربي .. تشبيه الحق بالخلق .. وقد يتبادر إلى الذهن أن العين واليد والنفس وما إلى ذلك هي من الحواس .. وهي حقا من الحواس ولكنها خاصة بالناس ومنزه عنها رب الناس .. إنها لا تخرج عن ملكيته .. فإن نسبت إليه ففيها الإشارة إلى فعله ومشيئته وقدرته المطلقة .. ويجب أن نحذر من أن ننسب الجزء إلى الكل كما ننسب عين أحدنا إلى ذاته .. أو يده إلى ذاته ذواتنا تقبل ذلك لأنها مكونة من هذه الأشياء .. أو من هذه المفردات .. لكن .. ذات الله تعالى منزهة عن كل ذلك. إذن ما السبيل إلى فهم هذا المعنى؟ .. وهل هو من المحظورات التي لا يجوز الخوض فيها؟.. أم هو من المباحات التي يمكن البحث فيها؟ الإجابة نعم على السؤال الأول .. ونعم أيضا على السؤال الثاني.. فهي من المحظورات التي لا يجوز الخوض فيها إذا كانت من باب التشبيه والتمثيل والتصوير .. فالمصورون الذين يتخيلون لله صورة هم في النار.. وهي من المباحات إذا كان البحث فيها من باب التنزيه. ولو كنا نبحث فيها من باب التنزيه فإننا نشهد أن الله منزه عن الحواس ولا يقاس بالناس ونعتقد أن كل ما خطر ببالنا من صفات لله تطابق صفات البشر إنما هو هالك .. والله بخلاف ذلك.
إننا كبشر قد ينسب إلينا شيء نملكه وقد ينسب إلينا شيء هو أحد مكوناتنا .. فنقول: قميصي..قلمي..سيارتي.. نسبة مملوك إلى مالك..ونقول: يدي..أذني..عيني.. نسبة مفردات إلى كل.. أو نسبة مفردات إلى ذات.. والخلط بينهما قد يجعل الأشياء المادية البعيدة عن ذواتنا جزءا منا .. فلو أن أحدنا يملك سيارة ملكية خالصة فإن كل جزء منها ينسب إلى صاحبها .. فإذا أودع بطارية سيارته لدى الكهربائي للشحن ثم سأل الكهربائي: بطـارية مَن هذه .. يقول بطـارية فلان.. ولا يقـول بطـارية سيـارة فلان..وعندمـا نقول بطـارية فلان فكأن فلانـا يمشي ببطارية .. أو كأنها جزء من ذاته..أوكأنها مثل يده أو عينه ولو سئل فلان عن البطارية يقول: بطاريتي .. وكذلك الشكـمان .. يقول شكـماني .. وكـأن لـه هو نفسـه شكـمانا.. والإطـارات يقـول إطاراتي..وكأن له إطارت يمشي عليها .. وغيرها ينسبها الغير إليه وينسبها هو إلى نفسه دون أن يضع كلمة سيارتي .. وهكذا. والعين قد تتجاوز وظيفة الرؤية وتعني الرعاية والعناية..فيطلب أحدنا من أخر شيئا فيستجيب له قائلا: “على عيني” إن ذلك ليس معناه أنه سيأخذ الموضوع من عينه.. وكأنه يضع الموضوع المطلوب في عينه..وأحيانا يطلب أحدنا من الأخر مساعدة قائلا: “يدك معنا” .. أو نفسك معنا .. والمقصود هنا ليست اليد في حد ذاتها أو النفس في حد ذاته ..ليس المقصود النفس بمعنى الشهيق والزفير..وعندما نقول: “فلان وضع يده على أرض فليس معناه أنه وضع كفيه على الأرض.. وكذلك “خلو رجل”.. فإذا كان ذلك يتعلق بنا نحن البشر .. الألفاظ لها معان تنزه ذواتنا وتبعد عن الترجمة المباشرة للتعبير فلماذا يصر البعض على أن ينسب الألفاظ التي وردت بها الحواس كما هي إلى الذات العليا؟. قال تعالى: [ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ] (10 الفتح) .. الواضح من هذه الآية أنه سبحانه وتعالى لم يقل “:كأنما يبايعون الله” بل قال : [ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ ]. فلا يفهم من ذلك الحلول .. بمعنى أن الله قد حل في الرسول^ أو أنه أصبح بديلا عنه.. ولكن المقصود هنا التأييد والتفويض.. فمن يطع الرسول فقد أطاع الله.. وبالتالي من يعص الرسول فقد عصى الله.. أي أنه سبحانه وتعالى جعل احترامه هو احترام لرسوله والتعدي على رسوله هو تعد عليه سبحانه وتعالى.. بل أن الأمر بلغ أن من احترم وليا لله فكأنه فعل ذلك مع الله .. ومن ناصب وليا لله العداء فقد حاد الله
كما ورد في صحيح البخاري- الجزء(4) ، ص (192) :
6502 – حدثني محمد بن عثمان بن كرامة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ^ :
( إن الله قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ).
نعود إلى أصل المثل الذي بدأناه مع السيارة.. بدلا من أن نقول سيارة مملوكة لصاحبها نقول عبد مملوك كلية لله ليس لغير الله فيه شعرة واحدة.. ليس للدنيا فيه نصيب.. وليس للشيطان فيه حظ .. وليس للهوى فيه بغية.. وليس للنفس فيه مأرب .. مملوك ملكية خالصة لله وحده.. ساعتها إذا أشرت إلى يده وتساءلت يد من هذه؟ .. يمكن القول:يد الله .. على طريقة شكمان فلان.. لا نقول شكمان سيارة فلان.. ولا نقول يد عبد لله.. نقول شكمان فلان.. ويد الله.. عين الله .. وهي يد لا تتحرك إلا فيما ترضيه.. وعين لا ترى إلا ما يرضيه. ولا يوجد عبد لله بهذا الكمال ومملوك لله ملكية خالصة سوى رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي قال عنه سبحانه وتعالى: [ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ] (1 الإسراء).. وطالما أمتلك الله العبد كلية ونسب إليه بالكلية نسبة ملكية فما هو المانع أن تنسب أجزاء منه إلى الله فيقال “يد عبد الله” كما يقال بطارية سيارة فلان.. وإذا حملنا الألفاظ..على المجاز العقلي نقول “بطارية فلان” .. ونقول “يد الله”. بناء على ذلك فإن قوله سبحانه وتعالى: [ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ] (64 المائدة) إشارة إلى العطاء والمنع..ينفق. أي هو قادر.. مالك.. متصرف .. اليد إشارة إلى قدرته المطلقة.. وعين الله إشارة إلى رعايته وعنايته وعدم غفلته.. فالأمور تؤخذ قياسية وتحمل على المجاز العقلي.أما قول القائل: إن الله استوى على العرش كاستواء أحدنا على كرسية فهذا فيه تصغير وتحديد وتقييد وتحجيم وتصوير لله سبحانه وتعالى.. لقد سئل الإمام مالك عن الإستواء فقال:إن الاستواء معلوم وكيفيته مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة والبدعة قد تكون سيئة وقد تكون حسنة .. فمن سأل عن الإستواء من باب التقييد والتشبيه فهي بدعة سيئة ومن سأل عنه من باب التنزيه مع اتساع مداركه الإيمانية فهي بدعة حسنة وهنا يكون الاستواء بمعنى الهيمنة والسيطرة بمعنى أن الله سبحانه وتعالى مهيمن على العرش و لا حوله

ولا حول ولا قوة إلا بالله