هل خلق الله بشرا قبل آدم؟

صوت الأمة العدد 110
6/1/2003

أستأذنكم في الخروج من هذا الزمن الضيق .. زمن التفسير المعلب .. والرأي الجاهز كإفطار الصباح .. والإجابة الموروثة التي نسمعها ونسددها ككمبيالة مستحقة الدفع .. أستأذنكم .. في أخذ إجازة طويلة مما تعودنا عليه .. وحفظناه.. فقد تعبت من حالة اللا اجتهاد التي نحن فيها .. لقد صارت عواطفنا وعقولنا مضغوطة .. مخنوقة.
يقول سبحانه وتعالى: [ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ] (30 البقرة) .. من أين علم الملائكة أن سيدنا ادم وذريته سوف يفسدون ويسفكون الدماء؟ .. وهل هذا فقط ما سيفعلونه؟ .. ألن يعمروا الأرض؟ .. ألن يخرج منهم أنبياء ورسل وأولياء صالحون؟ بعض المفسرين والمجتهدين من كبار العلماء والدعاة سارعوا بالقول: إن هناك خلقا سابقا على خلق أدم هم الذين يتحدث عنهم الملائكة ويشيرون إليهم بالإفساد وسفك الدماء .. لكن .. ذلك لا يبدو صحيحا .. إن أدم هو أول الخلق البشرى .. لا خلق قبله مهما كانت الاجتهادات.. وقد علم الملائكة بما سيفعله أبناء أدم فيما بعد وقبل خلق أبيهم من الله. فهناك نوع من الغيب لا يعلمه إلا الله ولا حرج عليه سبحانه أن يعلمه أحدا من خلقه .. لقد كشف الله للملائكة جانبا من خصائص ذرية أدم وأخفى بقدرته بقية الجوانب .. أطلعهم على الإفساد وسفك الدماء ولم يطلعهم على غير ذلك.. وكان أن استفسروا منه ولم يعترضوا على مشيئته بقولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء .. أما قولهم: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فليس معناه أنهم أفضل من غيرهم.. وإنما المقصود به الاستفهام والاستفسار .. فهم لم يروا باقي الجوانب .. فكان أن قال الله لهم : [ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ] (30 البقرة)
وعلم الله أدم الأسماء كلها فما هي الأسماء التي علمها الله لأدم والتي ما إن نطق بها أدم حتى سجدت الملائكة .. إن معظم التفاسير مؤكدة إنها أسماء الأشياء التي يعرفها البشر ويتعاملون معها من بداية الخلق حتى يوم القيامة .. أي كل ما عرفه أجدادنا وما عرفته أجيالنا وما سيعرفه أحفادنا.. شجرة . كوب .. نهر .. مكتب .. سماء . كومبيوتر .. ليزر .. هيروين .. تليفون .. أسفلت .. نسكافيه .. مثلا إنها الأسماء كلها .. فالاسم لا يطلق إلا على مسمى .. والمسمى يجب أن يسبق الاسم في الوجود.. وهو ما يعنى أن كل الأشياء التي عرف آدم أسماءها كانت موجودة قبل خلقه .. معناها أن آدم أخر الخلق .. معناها أن هناك خلقا سابقا عليه.. معناها إن الله جاء بعينات من كل ما له إسم فى معرض ( شو روم) وعلمها لآدم .. معناها ان كل شئ سابق على أدم .. معناها أن الأسماء التى تعلمها أدم هى لأشياء كانت حاضرة.
لكن .. ما إن نقرأ قوله تعالى: [ وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْـمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلَاءِ ] (31 البقرة) حتى ندرك أن ذلك التفسير متعجل ولا يتسم بالصبر والتأنى .. لقد قال تعالى: [ عَرَضَهُمْ ] ولم يقل عرضها .. عرضهم إشارة للعاقل .. وليست عرضها وهى إشارة للجماد وهؤلاء أسم إشارة إلى جمع العاقل .. وليس إلى الجماد الساكن .. كما فهم معظم المفسرين .. وهو الفهم الخاطئ الذى جعلهم يقومون بترقيع المعانى واستنتاج أشياء غير متجانسة.. ولو كنا قد قبلنا هذا التفسير فى حينه فإن ما فيه من مطاعين يجعلنا لا نستمر فى قبوله.. ولو كانت الأسماء التى علمها الله لأدم ليست مسميات لجماد فماذا تكون؟
لو علمنا أن علاقة الملائكة بربهم فى العبادة هى علاقة تلقائية (او اتوماتيكية بلغة العصر) لعرفنا العلة والمغزى فى قول تعالى: [ الْأَسْمَآءَ كُلَّهَا ].. إن الملائكة مخلوقون من أنوار الأسماء الإلهية .. كل نوع من الملائكة خلق من نور أحد الأسماء الإلهية .. وهو يسجد لنور الاسم الذى خلق منه .. ويعرف الله بهذا الاسم .. فإذا عرض عليه غير ذلك فإنه عما يعرض عليه محجوب . لا يتعرف عليه .. لا يراه .. لا يسجد له .. بلغة عصرنا هو نوع من الراديو (او جهاز استقبال) مصمم على استقبال محطة إرسال واحدة فإذا بدأ البث فى هذه المحطة يبدأ الجهاز فى الاستقبال وإذا انقطع البث فإن الجهاز يصبح كأنه غير موجود .. لا يستقبل أى شئ .. لو سئل هذا الجهاز عن محطات الإرسال الموجودة حوله يقول لا توجد سوى المحطة التى يستقبلها .. ولو قلت له: إن هناك عشرات المحطات الآخرى اعتذر لك عن إستيعاب هذه الحقيقة.
هذا بالضبط موقف الملائكة .. كل نوع منها يستقبل نور اسم من أسماء الله .. فإذا ظهر هذا الاسم او تجلى سجد له .. فهناك من يسجد لاسم .. فهناك – مثلا – من يسجد لاسم الرحمن .. لا يسجد لسواه .. ولا يعرف سوى أن الله هو الرحمن .. وهناك من يسجد لاسم القدوس . لا يسجد لسواه .. ولا يعرف سوى أن الله هو القدوس .. وهكذا .. لكن الله علم أدم كل الأسماء التى يعرفها الملائكة .. وكأنه مثل محطة إرسال مجمعه قادرة على التعامل مع كل المحطات ذات الموجة الواحدة .. فإذا بدأ البث على جميع الترددات والموجات عندئذ سيستقبل إرساله كل الأجهزة على اختلاف أنواعها وتردداتها .. وعندما يقول سبحانه: [ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] (33البقرة).. أسمائهم التى يعبدون الله بها .. ويتعرفون بها عليه سبحانه وتعالى .. فإنه يبدأ فى النطق بأسماء الله . وكل اسم ينطقه يسجد له الملاك الذى خلق من نوره .. وطالما أن الأمر يتعلق بالله فمنطقيا تكون الأسماء سابقة على وجود أدم .. فالمسمى موجود وقائم بذاته وبقدرته .. وهو الله سبحانه وتعالى .. قديم قدم الأزل .. الأبدى .. سرمدى.
ويطلب الله من الملائكة ان يسجدوا لآدم فهل يعنى ذلك سجودا لغير الله؟!! .. أبدا فالسجود كان بأمره .. وله .. ومثل قوله: [ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ] (59النساء،54النور،33محمد) .. فهذه الطاعة تعنى أن من يطع الرسول فقد أطاع الله من يسجد لآدم فقد سجد لله .. اما من رفض السجود فهو إبليس.. قال أنا أفضل منه .. وقد اعتبر الله رفضه السجود لآدم رفضا للسجود له سبحانه وتعالى.
إن إبليس كان فى ذلك الوقت ملكا من الملائكة لكنه لم يكن مخلوقاً من نور أحد الاسماء الإلهية وانما خلق من نور النار.. فليس له اسم يسجد له إذا ما سمعه فلماذا أعتبر عدم السجود لأدم عصيانا ؟ لماذا حلت عليه اللعنة؟ إن الأمر لو وقف عند التجلي تجلى الأسماء التي يسجد لها الملائكة لما لعن إبليس ولكنه لعن عندما راجع الله فيما منعه من السجود لما خلقه الله وهو أدم؟ فقد قال: [ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ] (12الاعراف،76ص) لقد اعترف بأن الله خالق..خالق أدم .. وكان ينبغي عليه ألا يقدم رأيه على رأي خالقه وهذا هو الفرق بين أدب الملائكة عندما قالوا: [ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ] (30 البقرة) أي لا نعترض على إرادتك وبين قلة أدب إبليس عندما خاطب الله على ذلك النحو وهناك سؤال أخر ما معنى أن يقول الله لإبليس: [ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ] (75 ص) ؟ والإجابة: أن الملائكة الذين أمروا بالسجود لأدم يسمون الملائكة الفلكيين (أي الذين يدورون في السموات) أما الملائكة العالون وهم فوق هذا المستوى فلم يؤمروا بالسجود لأدم وهم يسمون أيضا بالملائكة الكروبيين ويسمون كذلك الحافين من حول العرش.. ومعنى ما قاله الله لإبليس هو: هل استكبرت أم اعتبرت نفسك من الملائكة العالين الذين لم يؤمروا بالسجود لأدم أما الملائكة الفلكيون فكانوا يتحركون في اتجاه أدم مهما كان هذا الاتجاه وكأنهم مثل زهرة عباد الشمس التي تتحرك مع ضوء الشمس أو كأنهم مثل زهرة عباد الشمس أو كأنهم مثل الإبرة المغناطيسية للبوصلة التي تتجه ناحية الشمال المغناطيسي. ويبقى أن نسأل: هل ما زالت الأسماء الإلهية هي قبلة الساجدين من البشر أم أنها قبلة للملائكة فقط؟ وكيف يستطيع البشر تحديد الخليفة الذي يسجدون في اتجاهه وهم ليسوا على نفس القدر من شفافية الملائكة حتى يتعرفوا أين توجد الأسماء الإلهية؟ والجواب: هذا هو سر تجليات أسمائه فيها ليسهل على الناس تحديد مكانها على ذلك فإن روح الخلافة للبشر موجودة بقدرة الله تعالى في الكعبة المشرفة.
لقد ثبَّت الله المكان لأن البشر لا يملكون خاصية الملائكة يقول سبحانه وتعالى: [ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ(وليس للملائكة)لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِّلْعَالَمِينَ ] (96 آل عمران) وعندما يقول سبحانه وتعالى: [ وُضِعَ لِلنَّاسِ ] إذن لم يضعه الناس إن الملائكة وضعت الأساس للكعبة وقوله [ وُضِعَ لِلنَّاسِ ] لا يمنع أن الملائكة تطوف به ولكن وضع للناس للتيسير على الناس في تحديد القبلة فالسجود للكعبة سجود في اتجاه الكعبة والسجود لأدم سجود في اتجاه أدم والمقصود بالسجود في البداية والنهاية هو سجود لله سبحانه وتعالى

ولا حول ولا قوة إلا بالله