كيف أصبح المصريون من أهل البيت؟
صوت الأمة العدد 123
7/4/2003
تجمع مصر حروف اسمها الجميل وتعيد تطريزه على أطراف منديلها المعطر بالايمان.. تكتب إسمها بالخط الكوفى العريض على جدار التقوى..
مقتبسة روح حروفه من قطرات الندى المتساقطة على قباب ومآذن مساجد أهل البيت.. فتنبت الزهور والخضرة والروعة والسماحة فى قلوب الناس فيها .. يأخذ الاسم من محبة أهل البيت حرف الميم .. ويأخذ من صبرهم على الشدائد التى تعرضوا لها حرف الصاد .. ويأخذ من رأفتهم بالعباد العاشقين لهم حرف الراء.. وفجأة يتدلى الاسم بعد أن تلصق حروفه بعضها البعض على هذا النحو نجفة من الزمرد الأخضر فى سقف العالم الاسلامى.. تنير قلبه .. وتكشف الظلام عنه .. وتسحب رواسب الغل عن عروقه وشرايينه .. وتفتح أقفاله التي غلقها الشيطان بالغواية والخطيئة والمعصية .
لقد تعرفت مصر على وجهها في مقام سيدنا الحسين .. وقرأت كتاب الشهادة في مقام السيدة زينب .. وعرفت مزامير الاستقرار في سيرة السيدة نفيسة .. وتنفست عطر الجنة في مسيرة أبنائهم وأحفادهم من أولياء الله الصالحين .. وبقيت راضية مرضية بوجودهم على أرضها .. دعائم وركائز .
لكن .. من هم أهل البيت ؟ .. وهل الأهلية تضئ فقط بالقرابة ؟ .. إن الإجابة على هذا السؤال هي التي ستحدد لنا التعريف الشامل لأهل البيت كما ورد في الحديث الشريف في
مسند أحمد بن حنبل – الجزء (19) ، ص (296) :
12279 – حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن بن بديل العقيلي عن أبيه عن أنس قال: قال رسول الله ^ :
( إن لله أهلين من الناس فقيل من أهل الله منهم؟ قال : أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ) .
فلو كانت الأهلية تعني القرابة لقال الرسول الكريم أقرباء الله وأقرباء القرآن .. ويقول الله سبحانه وتعالى: [ يَآ أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ ] (13 الأحزاب) .. لم يقل يا أقرباء يثرب .. وفي قصة سيدنا نوح يقول سبحانه وتعالـى إلى سيدنا نوح :
[قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ ] (40هود) .. فلما أبي ابن نوح عليه السلام أن يركب السفينة عندما قال له أبوه: [ يَا بُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا ] (42 هود) .. ولما رست السفينة على الجودي (اليابسة) .. قال سيدنا نوح مخاطبا ربه :
[ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ] (45 هود) قال الله تعالى : [ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ] (46 هود).
من هنا نفهم أن للأهلية معنى يسمو على القرابة .. وهي مقدمة ضرورية ونحن نعرف من هم أهل بيت النبي ^ : إن كل من ينتسب إلى النبي ^ عن طريق القرابة من ذرية السيدة فاطمة الزهراء (ابنته) يسمون ذرية .. ولا يسمون أهل .. ومن صلح من الذرية يسمى العترة لقوله ^ في الحديث الشريف كما ورد
فى مسند أحمد بن حنبل – الجزء (17) ، ص (169-170) :
11104 – حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو إسرائيل يعني إسماعيل بن أبي إسحاق الملائي عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ^ : ( إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ) .
و في سنن الترمذي – طبعة دار الكتب العلمية – الجزء (5) ، ص (622) :
3788 – حدثنا علي بن المنذر كوفي حدثنا محمد بن فضيل قال حدثنا الأعمش عن عطية عن أبي سعيد و الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله ^ : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) .
.. ومن صلح من العترة يسمى الأهل .. وهم ذووا الأهلية المؤهلون للانتساب إلى النبي ^ نسباً إيمانياً. وهذا ليس لرسول الله فقط وإنما لكل المؤمنين لقوله سبحانه وتعالى : [ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّنْ شَىْءٍ] (21 الطور).
إذن شرط الإلحاق هو الاتباع .. فلم يلحق ابن سيدنا نوح بأبيه لأنه فقد شرط الإلحاق والاتباع .. [ يَا بُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَـﺌَـاوِىٓ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْـمَآءِ ] (43،42 هود) .. فطالما فقد شرط الاتباع فإنه يفقد الأهلية .. وكأن الأهلية تأتي بعد التصفية على مرحلتين : المرحلة الأولى : من صلح من الذرية أو على الأقل لم يخالف ما أمر به الله ورسوله .. ثم المرحلة الثانية : من صلح من العترة .. هؤلاء هم أهل بيت النبي المؤهلون لحمل الأمانة وإبلاغ الرسالة .. وكذلك أهل كل مهنة المؤهلون للقيام بها.
يقول سبحانه وتعالى : [وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ] (26 الفتح) .. ويقول سبحانه وتعالى: [جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ] (23 الرعد) .. هنا يستفيد الابن من صلاح أبيه ويلحق به إذا اتبعه لأنه عندئذ يكون أهلا لذلك .. أما غير المتبع فإنه يفقد الأهلية .. لا أهلية له مهما كان موقفه من الذرية .. لذلك لا تحزن لو لم يكن في جيبك بطاقة من جمعية الأشراف .. فهناك طريق آخر للانتساب إلى أهل البيت وهو طريق الإيمان .. فالنبي ^ لا يمكن أن يقصر هذا الشرف على أعضاء هذه الجمعية فربما فسق بعضهم .. وربما أساءوا للذرية .. كلنا أبناء آدم وآدم نبي فهل كل من خرج من ذريته له شرف النبوة ؟
هناك مدخل آخر للحصول على شرف الانتساب إلى أهل البيت … المدخل الإيماني الذي دخل منه سلمان الفارسي وبلال بن رباح الحبشي وصهيب الرومي … فقد منحهم رسول الله شرف النسب إليه رغم أنهم ليسوا من ذريته … ليسوا من ذرية السيدة فاطمة الزهراء … قال ^ : في الحديث الشريف كما ورد في المعجم الكبير – الجزء (6) ، ص (260-261) :
6040 – حدثنا مسعدة بن سعد العطار المكي ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ثنا ابن أبي فديك عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده : أن رسول الله ^ خط الخندق من أحمر السبختين طرف بني حارثة عام حَزَّب الأحزاب حتى بلغ المذابح فقطع لكل عشرة أربعين ذراعا فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي رحمه الله وكان رجلا قويا فقال المهاجرون : سلمان منا وقالت الأنصار: سلمان منا فقال رسول الله ^ :( سلمان منا أهل البيت )
… وقال “بلال منا أهل البيت” … وقال: “صهيب منا أهل البيت” … وقال شاعر من زمان قديم : ” عليك بتقوى الله ما كنت سالما … ولا تترك التقوى إتكالا على نسب” … “لقد فاز بالتكريم سلمان الفارسى … وخلد في نار الجحيم ابو لهب” … وهو عم النبى … فلم تنفعه عمومته للنبى … وسلمان الفارسى لم يحرمه أنه ليس من ذرية النبى من شرف الانتساب إليه … يقول سبحانه وتعالى: [ النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْـمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ] (6 الأحزاب) … فإذا كان أزواج النبى أمهات المؤمنين فهذا انتساب إلى رسول الله نسبا إيمانيا … معناه أن نسبهم آل إلى رسول الله … فيسمون آل البيت … آل نسبهم إلى رسول الله بالإيمان… وفى النهاية يجمع الطرفان بالايمان وبالذرية الصالحة … تحت مسمى واحد هو أهل البيت.
لا يدخل أحد تحت هذا الشرف إلا بالإيمان واتباع رسول الله ولو كان من ذريته لقوله ^ في الحديث الشريف
كما ورد في صحيح البخاري – الجزء (4) ، ص (359):
7280 – حدثنا محمد بن سنان حدثنا فُلَيحٌ حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار ((عن أبي هريرة أن رسول الله ^ قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى . قالوا يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)).
… وبهذا الايمان … وبحب جارف ينتسب المصريون إلى أهل البيت … فهم منهم … وفى رعايتهم … ولهذا كان مقامهم الأخير ومستقرهم فى مصر.
ويقتدى المصريون بأهل البيت ليؤكدوا فى كل لحظة انتسابهم لهم .. فأهل البيت هم القدوة والبركة والمثل الأعلى للمصريين.. ولا يمكن حصر جواهر أهل البيت .. فهى التحلى بكل صفات الرسول علية الصلاة والسلام .. الرضا بالقليل .. والعمل بالتنزيل .. والإستعداد ليوم الرحيل .. بالاضافة إلى الشجاعة والشهامة والكرم والعفو وحب الله تعالى … [ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ] (199 الأعراف) .. لقد قابل الإمام الشافعى رجلا راح يكيل له السباب وصفه بالفجر والزندقة فنظر الإمام الشافعى إلى السماء وقال: ” اللهم إن كان عبدك هذا صادقا فتب على وأغفر لى وسامحنى وان كان غير ذلك فتب عليه وأغفر له وسامحه”… إن العفو الذى لجأ إليه الإمام الشافعى أشد من القصاص … قدره الرجل على العفو أشد من قدرته على القصاص … لأن فى القصاص أخذا … وفى العفو ترك قدره .. لذلك فإن من خصال أهل البيت العفو عند المقدرة .. ومن خصالهم أيضا عدم التوقف عن ذكر الله حتى الإمام على رضى الله عنه عندما سئل عن خصائص المنافقين قال: لا أقول فيهم إلا ما قاله الله تعالى: [وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً] (142النساء).
ولو كان من السهل تعديد صفات أهل البيت المعروفة فإن علينا أن نذكر ما هو غير معروف من صفاتهم وعلى رأسها الترفق بمن لا يعلم عند عرض المعلومات عليه .. فهم يحددون المستوى الذى يرون فيه المستمع ويتكلمون عنده .. عملا بقول النبى ^ في الحديث الشريف في تخريج أحاديث الإحياء – الجزء الأول ، ص (165-167) :
146 – حديث ( نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم و نكلم الناس على قدر عقولهم ) .
.. لم يقل النبى: أمرنا أن نخاطب الناس على قدر علمنا .. وانما قال على قدر عقولهم .. كما جاء في الحديث الشريف في صحيح مسلم – الجزء الأول ، ص (11) :
5- حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى قالا أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن أبن شِهابٍ عن عُبَيدْ الله بن عبد الله ابن عتبة أن عبد الله بن مسعود قال : ( ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
هذه الصفة من أهم خصال أهل البيت رضوان الله عليهم .. إن على زين العابدين ابن سيدنا الحسين رضى الله عنه يقول:
• إنى لأكتم من علـمى جواهــره***كي لا يمـــر بـذى جهـــل فيفتتـن
• فيارب جـوهـر علم لــو أبـوح بـه***لقيل لى أنت ممن يعبدون الوثـن
• ولإستحل رجال مسلمون دمى***يـــرون أقبـح مـــا يأتــونـه حســن
إن كشف العلم على غير أهله عورة .. فان أعطى الرجل الحكمة لغير أهلها ظلم الحكمة وإن حجبها عن أهلها ظلمهم. وإن أعطاها لأهلها فهو الحكيم .. إذن الحكيم هو الذى يضع الشئ فى نصابه ..
وكما ورد في صحيح البخاي- الجزء الأول ، ص (59) :
120 – حدثنا إسماعيل قال حدثني أخي عن ابن أبي ذِئبٍ عن سعيد المقْبُرِيِّ عن أبي هريرة قال: حفظت من رسول الله ^ وعاءين فأما أحدُهما فبَثَثْتُهُ وأما الآخَرُ فلو بَثَثْتُهُ قُطِعَ هذا البُلْعوم.
وعلى ذلك تكون القاعدة الشرعية التى أرساها أهل البيت هى إنه ليس كل ما يعرف يقال .. وليس كل ما يقال جاء أوانه.. وليس كل ما جاء أوانه حضر أهله .. وأن نقول الشىء لأهله فى وقته.
هذا ما هو غير مشهور عنهم .. أما ما هو مشهور عنهم .. فكل ما يريح الخاطر .. ويضئ القلب.. ويفرض السكنية على الناس أجمعين .. وقد أخذ المصريون منهم الكثير من هذه الخصال.. فأصبحوا شعبا لا يؤمن بالانقلابات الحادة ولا التغيرات الحادة .. ويستوعب كل ما يستعصى عليه .. ويهضمه .. ويلفظه .. عملا بالقول الكريم: [ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ] – 17 الرعد
ولا حول ولا قوة إلا بالله
في تصنيف : لحظة نور في يوليو 15th, 2010