شاهد العيان هو الفاسق بنبأ

صوت الأمة العدد 126
28/4/2003

كل شئ محكوم بنظام .. السنة محكومة بشهورها .. والشهور محكومة بأسابيعها .. والأسابيع محكومة بأيامها .. والأيام محكومة بتعاقب ليلها ونهارها .. كل شئ محكوم بنظام .. الثمرة محكومة بالشجرة .. والشجرة محكومة بالشتلة . والشتلة محكومة بالبذرة . كل شئ محكوم بنظام .. لا فوضى فى الكون .. ولو تصورنا أن هناك فوضى فمعناه أننا لم نكتشف بعد القانون الذى ينظمها .. والنظام الذى يفرض أصولها وقواعدها.
وكل كلمة فى كتاب الله وضعت فى مكانها الصحيح وفى نظامها الدقيق ومهما كانت بساطة معناها.. وسهولة تفسيرها فإن فى أعماقها جواهر أخرى غالية وثمينة .. ربما لا يملك كل من يقرأها الوصول إليها .. فهى فى حاجة إلى غواص ماهر نقى فتح الله عليه وأذن له بالاقتراب من هذه الكنوز. إن المشاعر مهما لهثت كالخيول على المرتفعات أو مهما إجتازت المسافات بسرعة الضوء لا تتجاوز معنى كلمة واحدة .. ولكن معانى كلمات الله متعددة .. ولا يملك الانسان سوى أن يرقى بقلبه حتى يمكن أن يتصالح مع لغته .. ويقترب من تلك المعانى .. ويقيم لها صلاة شكر .. ويزيل الغربة بينه وبينها.. إننا يجب أن نعتب على عقولنا لأنها لا تستطيع أن تفهم كلمات الله بصورة أعمق.. ويجب أن نعتب على مسام جلدنا لأنها لم تمتصها بشكل أفضل.. لأنها لم تلتقط حبات اللؤلؤ المتناثرة على امتداد شواطئ هذا المدد الجميل.
وأحيانا.. ما نأخذ كلمات الله بظواهرها ونسارع بتفسيرها .. وينتقل التفسير من شخص إلى آخر .. ومن جيل إلى جيل بعده .. دون أن نتوقف لنراجع ونفحص .. دون أن نتأمل وندقق .. فيكون هناك ما يمكن وصفه بالتفسير الشائع الذى لا يوصلنا إلى حبات اللؤلؤ.. يقول سبحانه وتعالى: [ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَـبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ] (6 الحجرات).. إن هذه الآية الكريمة يستخدمها كل من ينفى عن نفسه شيئا قيل عنه .. يسارع بوصف القائل بالفسوق .. فكل من يقول شيئا لا يعجبنا هو فاسق .. طبقا لهذا التفسير الشائع الذى يحتاج إلى تأمل من نوع آخر. إننا لو أخذنا الآية على ظاهرها فإن كل من يحمل نبأ يوصف بالفسق .. او يوحى ظاهرها بأن الرجل العادى الذى يسمع نبأ يمكن أن يفرق بين الفاسق وغير الفاسق.. بمجرد سماعه أو النظر إليه .. بمعنى آخر .. كيف أميز بين فاسق وغير فاسق بمجرد سماعة يقول نبأ؟.. هل بمجرد رؤيته؟.. هل بالرجوع إلى سجلاته؟.. ولو كنت لا أعرفه فكيف أعرف أنه فاسق او غير فاسق إذا ما جاء بنبأ؟ .. وما يزيد المشكلة هنا .. أننا لو إعتبرنا كل من يأتى بنبأ هو فاسق فهذا معناه شيوع الاتهام بالفسق بين الناس.. وهى جريمة كبرى يوصف بها المنافقون .. ومن ثم يجب التروى فى فهم ما نسمع من آيات كريمة وأحاديث شريفة.
كلمة فاسق هى كلمة لغوية .. وفى اللغة يقال: فسقت النواة (نواة بلحة الرطب) أى خرجت من مكانها فى قالب البلحة إذا ما ضغطنا عليها .. لو خرجت النواة من البلح الرطب سميت فاسقة.. وعندما يقع حدث ما ويخرج منه شخص .. شاهد عيان ليخبرنا بما حدث .. يسمى “فاسق بنبأ” .. لا يسمى فاسق فقط .. التعبير هنا واحد ولكن من كلمتين: “فاسق بنبأ” .. أى خرج من قلب الحدث… مرة أخرى: شاهد عيان .. فهناك فاسق .. وفاسق بنبأ .. والفاسق بنبأ غير الفاسق بمعناه الايمانى.. الفسوق بعد الايمان هو خروج من الدين او الملة .. اما فاسق بنبأ فهو فسوق لغوى. ومن ثم فإن فاسق بنبأ هو شاهد العيان الذى جاء من مكان الحدث ليروى لنا ما رأى ورغم ذلك علينا ألا نكتفى بسماع ما يقول .. بل يجب ان نتأكد منه.. إن المراسلين الصحفيين فى حرب احتلال العراق يمكن وصفهم بفاسق بنبأ.. فهو يقول ما يرى من قلب الحدث .. لكن قد يكون فى مكان لا يتيح له ان يرى كل جوانب الحقيقة فعلينا أن نتأكد مما يقول .. لقد كان كل مراسلى التليفزيون الأمريكيين والأوروبيين والعرب يغطون الحرب .. ومن مواقع متشابهة رغم ذلك كان كل منهم يقول شيئا يختلف عن غيره.. إن كلاً منهم فاسق بنبأ.. ولكن.. لا يجوز أن نأخذ ما يقولونه مسلم به وإلا أصبنا قوما بجهالة وندمنا على ذلك .. وهو ما حدث بالفعل إن من شاهد ليس كمن سمع .. ومن شاهد هو شاهد عيان .. وهو قد يعرف بعض الحقيقة .. ولا يعرفها كلها .. ومن ثم علينا أن نتأكد مما قال.. إنها قاعدة لو طبقت لجنبنا أنفسنا الكثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية والسياسية التى لا نهاية لها والتى نعانى منها .. إننا لا نجعل مصادرنا شهود العيان الذين يجب التأكد مما يقولون….. وانما نجعل مصادرنا من هم أقل منهم مرتبة فى استيعاب الحقيقة الشهود بالسمع.. فنحن نتأثر بالسمع .. وربما تصرفنا على أساس ما سمعنا وهو ما أصاب المجتمع كله بجهالة .. لكن .. يندر أن نجد من يندم على ذلك .. بل على العكس نجد من فعل ذلك مصرا متجبرا أو متغطرسا وكأنه ملك الحقيقة .. هذا يحدث كثيرا فى مجتمعنا .. ثم والمثير للدهشة نتساءل فيما يشبه الدهشة او البراءة عما جرى لنا؟ .. عما أصابنا؟

ولا حول ولا قوة إلا بالله