هل يعرف الصوفيون الغيب؟

صوت الأمة العدد 103
18/11/2002

ولعل الصوفي هو الأكثر إحساسا وإيمانا بذلك رغم الأفكار الخاطئة الهائمة السائدة غير المتسمة بالدقة عن الصوفية مثل رفع التكاليف وأهل الحظوة والقدرة على شفاء الأمراض ورد الغائب إلى أهله وتحقيق الكرامات وغيرها إن هذه العبارات صحيحة ولكن الخلاف كالعادة على المعنى ولنبدأ بمعرفة الغيب ومعرفة الغيب باب واسع فلا يعلم الغيب إلا الله ولكن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يطلع أحدا من خلقه على غيبه فلا حرج على فضل الله.. يقول سبحانه وتعالى: [ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ] (27،26الجن) ربنا يعلم الغيب ولكن هناك استثناء يمنحه إلى من ارتضى من رسول. والغيب أنواع هناك” غيب الشهادة “وهو أبسط أنواع الغيب كأن تعلم ما في جيبك من نقود ولا يعلمه جارك كأن تعلم ما تفكر فيه ولا يعلمه غيرك.. ما تعلمه أنت وغاب عن الآخرين هو بالنسبة إليك شهادة ما أمامك … وشهادة ما وراءك غيب … لو كنت تقود سيارتك ما تراه أمامك شهادة وما خلفك غيب لن يصبح شهادة إلا إذا كانت هناك مرآة تنظر فيها لترى ما وراءك وغيب الشهادة لا علاقة له بإيمان أو كفر مستوى عادي جدا من معرفة الغيب. كانت هناك غيوب شهادة لم يكن متاحة للإنسان أن يعرفها لكن تيسير العلم أتاحها إننا لم نكن نعلم ما في بطن الأم الحامل بالعين المجردة: ولدا أم بنتا؟ لكن جاء السونار ليحدد لنا ذلك .
وأيضا كشفت لنا الأشعة ما كان مجهولا بالنسبة لنا في داخل جسم الإنسان ..الأمراض والكسور ..كذلك كشف لنا الرادار الطائرات والسفن البعيدة التي لا نراها بالعين المجردة إن ذلك علم غيب يسره الله لنا من خلال هذه الأجهزة. وإذا كان الله قد أطلع عباده بواسطة هذه الأجهزة على مستوى معين من الغيب فإنه قادر ولا شك أن يجعل بعض عباده في حد ذاتهم أجهزة شفافة تكشف بقدرته ما يشاء من غيب لا يتاح لغيرهم.. ففي الحديث الشريف الذي ورد بسنن الترمذي- الجزء (5) ، ص (278):
3127 – حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أحمد بن أبي الطيب حدثنا مصعب بن سلام عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ^ : ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } ) .
وورد في الحديث الشريف في كتاب فضائل الصحابة في الجزء الأول ص(269) :
355 – حدثنا عبد الله قثنا أبو عمرو الحارث بن مسكين المصري قثنا بن وهب عن يحيى بن أيوب عن بن عجلان عن نافع عن عبد الله بن عمر : أن عمر بن الخطاب بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية قال فبينا عمر يخطب الناس يوما قال فجعل يصيح وهو على المنبر يا ساري الجبل يا ساري الجبل قال فقدم رسول الجيش فسأله فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمناهم فإذا بصايح يصيح يا ساري الجبل يا ساري الجبل فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله فقيل لعمر يعني بن الخطاب انك كنت تصيح بذلك قال بن عجلان وحدثني إياس بن معاوية بن قرة بمثل ذلك.
من الذي أطلع سيدنا عمر بن الخطاب وهو على منبره في المدينة أن سارية محاصر بالشام وأن النصر لن يكون إلا باعتصامه بالجبل؟.. لقد كشف الموقعة كلها ثم نادى: يا سارية الجبل”وسارية وسط صخب المعارك وصهيل الجياد وصليل السيوف سمعها وميز صوت صاحبها؟..فلما عاد سارية من المعركة سئل سيدنا عمر قال: “كلمات أجراها الله على لساني” وهي فعلا كذلك أطلعه الله على غيبه وأنطقه بالحل وسمع سارية النداء إذن هي فراسة المؤمن تكشف الغيب أحيانا بإذن الله.
هناك أشياء معينة نعرفها كبشر شركة الكهرباء تعرف استهلاكنا من الكهرباء شركة التليفون المحمول تعرف ذلك بواسطة الكمبيوتر لكن الكمبيوتر لا يعلم الغيب لكنه مبرمج على أداء هذه الوظيفة وغيره من أجهزة صنعها الإنسان لكشف بعض مما لا نعرف ولكن ذلك ليس كشفا إلا لغيب محدود في نطاق البشر أما النبي ^ فقد أخبر المؤمنين بفتح مصر وقبل أن يحدث ذلك على أن لا أحد يعلم الغيب بنفسه أو بذاته أو بقدرته لكن بمنحه من الله .. الله يُعلِّم من يشاء ولا حرج عليه. لا قدرة لملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي من أهل الحظوة على شيء من هذا كله .. ولكن القدرة لله سبحانه وتعالى .. الله هو الذي أعطى الكلب البوليسي حاسة الشم التي تكشف اللصوص وهو ما لم يمنحه الضباط الكبار هو الذي منح الكلاب القدرة على التنبؤ بالزلزال وهو ما لا يعرفه علماء الجيولوجيا لا أحد يعلم إلا ما علمه الله.. ولا حدود لما يعلمه الله. لكن هناك غيبا أخر يسمى الإرادة وهو الذي أخبر به الله ملائكته بأنه جاعل في الأرض خليفة وقالوا: [ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ ] (30البقرة) لقد عرف الملائكة الغيب.. علموا بأن البشر سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء قبل أن يخلق آدم وقبل أن تتكاثر ذريته على الأرض وقبل أن يحدث شيء مما قالوه. وهناك غيب يسمى “الإيمان” وهو المستوى الأعلى من الغيب وهو غيب يكشفه الله للمستوى الأعلى من خلقه.. الدليل على ذلك قصة سيدنا موسى والخضر.. لقد رأى ركاب السفينة (التي خرقها الخضر) ما لم يره غيرهم رأوها وقد خرقت وهو غيب شهادة ورأى موسى الخضر وهو يخرقها وهو مستوى أعلى من الغيب فموسى يعلم من خرقها ولكن المستوى الثالث والأعلى من الغيب هو ما رآه الخضر.. الحكمة من خرق السفينة هي الحفاظ عليها لأهلها وحمايتها من المصادرة لحساب الملك الذي كان لا يصادر سوى السفن السليمة ويمكن القول بالتفسير نفسه في قتل الغلام.. وإقامة الجدار.. وباقي القصة مشروح بالتفصيل من قبل. وهناك أيضا غيب يسمى “الغيب المحمدي” وهو خاص بمنزله ومرتبه سيدنا رسول الله ^ بين الخلق وبه سمي رسول الله غيبا في قوله: [ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ] (24التكوير).. بمعنى أن الله لم يضن على رسوله بشيء مباح لخلقه غير أن هذا النوع من الغيب يدخل في الاستثناء فلا يظهر على غيبه (منزلة رسوله) أحدا إلا من ارتضى من رسول إذن هذا النوع من الغيب ممنوع مع التشديد ومسموح استثناء لمن ارتضى الله من رسول. غير أن هناك نوعا من الغيب استأثر الله به لنفسه ولم يطلع عليه أيا من خلقه حتى رسول الله ^ وهذا النوع من الغيب يسمى “الغيب المطلق” وهو محور الآية: [ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ ] (65 النمل). وهو متعلق بكنه الذات العلية أي الصفات الذاتية حتى إن من يدعي علمه يكون من المشبهين أو المصورين الذين هم في النار وهو الذي حذر الله منه [ وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ ] (30آل عمران).. وذلك رأفة ورحمة بالعباد .. [ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ] (30آل عمران) لأنه لا طائل من وراء الخوض في هذا النوع من الغيب إلا الوقوع في المحظور وعدم التنزيه ولله المثل الأعلى.. [ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ] (115التوبة) وهذا بيان للمسموح والممنوع بإذن الله وقدرته فليس كل غيب يتساوى مع الغيب الآخر من حيث النوع والإباحة والتحريم. خلاصة القول: كل الغيوب لا يعلمها إلا الله ولكن هناك غيوبا يسمح بقدرته لخلقه بمعرفتها: غيب الشهادة غيب الإرادة غيب الإيمان الغيب المحمدي وهناك غيوب لم يسمح بها: الغيب المطلق

ولا حول ولا قوة إلا بالله