كل شيخ وله طريقة

صوت الأمة العدد 102
11/11/2002

في اللحظة التي يداهمنا فيها الغياب لن نجد فرصة نبكي فيها تحت قباب لن نقرأ الكتاب لن نمسك إلا بالسراب. في اللحظة التي سينقطع فيها المطر لن يكون في أخر الليل قمر سنظل على سهر.. سندخل العالم الآخر بلا جواز سفر. في اللحظة التي سنشعر فيها بالشتات لن يكون لدينا لسان أو شفاه أو مفردات سنخاف من النطق بالكلمات إنها لحظة بألف دهر عبورها فاصل بين النعيم والقهر دواؤها أن نذكر الله الذي لا يدركه البشر ولو ابتلعوا الزمن باليوم والشهر. وذكر الله أولى علامات الصوفية والصلاة على رسوله ^ وحب آل البيت رضوان الله عليهم لكن إذا كانت هذه العبادة واضحة على هذا النحو فلماذا تتعدد طرقها وتتنوع مدارسها وتختلف راياتها؟ بصيغة أخرى: ما معنى كل شيخ وله طريقة؟. معناه أن كل شيخ وله طريقة خاصة به لتوصيل العلم إلى مريديه وليس كل شيخ له دين فالدين واحد إن من أجمل تعبيرات الصوفية تعبير مريد ويعني الشخص الذي اتبع شيخه بإرادته وحريته لم يتبعه قسرا أو قهرا أو إرغاما بل اتبع حبا وحماسا فالشيخ لا يأمره بمعصية ولا يحرضه على خطيئة ولا يلقى به في رذيلة وربما كانت هذه الطاعة أو هذه القناعة سببا في قلة ثقافة المنتمين للصوفية من المريدين أحياناً.. لسبب غريب ومنطقي هو أن المريد يثق في شيخه فلا يسأله عن مصدر ما يقول لأنه يعلم أن شيخه لابد أنه مطلع على كتاب الله وسنة رسوله لكن السؤال لا يضر بل على العكس يفيد فالسؤال مفتاح العلم. وللصوفية مشارب ومسالك يتناسب كل منها مع عصره وزمانه وكيانه. في عصر الإمام الشافعي مثلا لو سألت مسلما عن المذهب الشافعي والمذهب الحنبلي سيبادر بالقول: إن المذهب الحنبلي اشد صعوبة وذلك لأن الإمام أحمد بن حنبل تلميذ الإمام الشافعي كان عالماً وكان يتقبل من أستاذه وشيخه ما لا يستطيع غيره أن يتقبله كان يرى شدته شيئا عاديا سهلا بسيطا. ففي ذلك الزمن كان المريدون عارفين بأحكام الشريعة لم تكن صعبة عليهم ومن ثم كان الواحد منهم يتقبل من شيخه كل ما يقول مهما كان شاقا دون ضجر لكن في أزمنة أخرى جهل فيها الناس هذه الأحكام لا يتحمل المريدون ما يعتبر شدة فكان التخفيف من شيوخهم حتى يتعلموا وربما كانت هناك قسوة أحيانا لكنها قسوة الأب على ابنه لو عرف الابن سرها وسببها لتأكد أنها ليست قسوة وإنما رحمة إن معرفة سبب الألم يجعل من السهل علينا تفسيره. ولو كانت كلمات مثل الشيخ والمريد ثقيلة على الأذن في هذا العصر إذا لم تكن مستساغة هذه الأيام فليس هناك ما يمنع أن تكون التسمية هي الأستاذ والتلميذ الأسطى والصبي الأب والابن المعلم وطالب العلم لا نريد أن تأكلنا وتستهلكنا الكلمات ما يهمنا هو أن يعرف كل شخص واجباته وحقوقه إن واجب المعلم أن يعلم تلميذه بما أمر به الله ورسوله فإن حافظ على ذلك وجب على التلميذ طاعته. إن علاقة التلميذ والمعلم في صورتها المثالية نجدها في كتاب الله في قصة العبد الصالح سيدنا الخضر وسيدنا موسى عليه السلام.. فلو وضعنا سيدنا موسى في موضع التلميذ ووضعنا سيدنا الخضر في موضع المعلم سنجد سياقاً إنسانيا راقيا وجميلا لهذه العلاقة إنها علاقة تقوم على المكاشفة من أول خطوة لقد طلب سيدنا موسى (التلميذ) من سيدنا الخضر (المعلم) الصحبة.. وحدد غايته في قوله: [ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] (66الكهف) هذه هي غاية التلميذ..فكان أن صارحه الخضر بصعوبة ما يطلب في قوله: [إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً ] (67الكهف).. وليس هذا طعنا في قدرات التلميذ الذاتية . ولكن هو عدم الإلمام بطبيعة العلاقة. قال له الخضر: [ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ] (68الكهف).. الأستاذ يفسر صعوبة المهمة وحرف “لن” هنا دلالة على توقع ما سيحدث مستقبلا ثم إن الخضر التمس لموسى العذر في قوله ” وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ].. لكن التلميذ عرض على الأستاذ استعداده الكامل للفهم والاستيعاب وقال: [ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللهُ صَابِراً وَلَآ أَعْصِي لَكَ أَمْراً ] (69الكهف) وقبل الخضر أن يتبعه ليس معناها أن يعبده ولكن هدفها أن يعلمه مما يعلم أو الأدق أن نقول مما علمه الله. لقد توقع الخضر من موسى الإنكار بسبب عدم العلم وهذا طبيعي فالإنكار يأتي دائما من عدم الإلمام وبقية القصة أنهما انطلقا حتى إذا ركبا (كلاهما) في السفينة خرقها (الخضر بمفرده) فاعترض موسى (التلميذ) كما توقع اعتبر موسى خرق السفينة جريمة شروع في قتل جماعي هم ركاب السفينة وتخريب ملكية خاصة وقال: [أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا] (71الكهف) عندئذ ذكره الأستاذ بشروط المصاحبة قائلا: [ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً ] (72الكهف) لقد أخل موسى بهذه الشروط ثم انتبه إلى ذلك فسارع إلى اعتذار رقيق نسبه إلى النسيان نسيان بنود الاتفاق والنسيان ليس ذنبا قال له: [ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً ] (73الكهف).. يعني على مهلك على. قبل الأستاذ الاعتذار وانطلقا من جديد حتى إذا لقيا (كلاهما) غلاما فقتله (الخضر بمفرده) عندئذ لم يتصور التلميذ أن طاعته لأستاذه يمكن أن تصل إلى هذه الحد حد القتل لقد كانت المرة الأولى شروعاً في قتل عمد مع سبق الإصرار أما هذه المرة قتل …جريمة كاملة واضحة وتكلم التلميذ على قدر إلمامه ووجه كلامه للأستاذ قائلا: [ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ] (74الكهف).. إن القتيل طفل برئ لم يبلغ الحلم ولا يحاسب على ذنب فكيف يكون الموت مصيره؟..عندئذ ذكره الأستاذ بما كان بينهما من اتفاق قائلا: [ أَلَمْ أَقُل إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً ] (75الكهف) وعاد التلميذ إلى وعيه..ولكنه لم يكتف بالاعتذار هذه المرة وإنما وضع شرطا لنهاية الصحبة التي طلبها بنفسه إذا تكرر منه رفضا أو اعتراضا قال موسى: [ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْراً] (76الكهف).. وقبل الأستاذ أو الشيخ الاعتذار على الشرط الذي وضعه المريد وكأن الشيخ لا يضع الشروط وإنما الذي يضعها المريد. انطلقا مرة أخرى حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها (طلبوا طعاما من أهلها) فأبوا أن يضيفوهما ورغم ذلك وجدا جدارا (وجد كلاهما الجدار) يوشك أن يقع متهدما فأقامه (المثنى هنا أصبح مفردا ويعود على الخضر وحده).. فاعترض التلميذ من جديد لقد ظن أن الاعتراض هذه المرة لن يضر فهو ليس اعتراضا على خطأ وإنما على صواب ليس على شيء سلبي وهو خرق سفينة وقتل طفل وإنما على شيء إيجابي هو بناء جدار كان على وشك أن يقع في قرية لم تطعمهما لم يخطر ببال المريد أن الاتفاق يشمل أي اعتراض مهما كان وقال للشيخ الذي قام الجدار: [ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ] (77الكهف). قال الشيخ: [قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ(سأشرح لك) بِتَأْوِيلِ(بتفسير) مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ] (78الكهف) وراح يفسر له ما لم يستوعبه .. [ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ] (79الكهف) (كان يأخذ السفن السليمة ولا يأخذ السفن المعطوبة).. فكأن عطب السفينة قد أنقذها من المصادرة الملكية وهو عمل خير بدا في صور سيئة لم يفهم التلميذ ما وراءه. أما الغلام أبواه مؤمنين فإذا كبر فسوف يرهقهما ويجبرهما على الكفر.. وعندما يموت فإنه سيموت دون ذنوب مما يتيح له دخول الجنة كما أن موته الآن يتيح للأبوان إنجاب غيره.. [ فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَـهُمَـا رَبُّهُمَـا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ] (81الكهف) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة (لاحظ أن القرآن استخدم في البداية كلمة القرية دلالة على توقع الكرم وعندما ظهر بخل أهلها أسماها المدينة) كان تحت الجدار كنز لليتيمين خاصة أن أباهما كان صالحا فأراد الله أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ذلك [ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ] (82الكهف). القصة تبين أن المريد بكل إرادته هو الذي طلب الصحبة الشيخ لفت نظره إلى صعوبة ذلك وعدم القدرة عليه على أن المريد وعده بالصبر..وعندما أخطأ وأعتذر قبل الشيخ اعتذاره..وعندما تكرر الخطأ طلب المريد المفارقة لو كرر الخطأ إذن المريد ظل محتفظا بإرادته كاملة في صحبة الشيخ..يكون السؤال: ماذا لو سلم موسى بخرق السفينة أيكون مخطئا لأنه يكون قد سلم بشروع في قتل؟ وماذا لو لم يسأل موسى عن قتل الغلام أيكون مخطئا لسكوته على جريمة قتل؟ ثم ماذا لو سلم له بإقامة الجدار ولم يتدخل؟.. لو لم يسأل موسى لكان قد واصل الصحبة ولكان قد تكشف له كل شيء خفي عنه دون اعتذار أو مفارقه..
وورد في سنن أبي داود – الجزء (4) ، ص (286):
3984 – حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى عن حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله ^ إذا دعا بدأ بنفسه وقال
( رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر لرأي من صاحبه العجب ولكنه قال { ان سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا } طولها حمزة .
 إن هذه هي ثقة المريد في شيخه وهي ثقة لا تبعية والمسافة بين الشيخ والمريد مسافة علم الفروق بينهما هي فروق علم واعتراض المريد على الشيخ هو اعتراض من لا يدري على من يدرى وليس من يدرى مثل من لا يدري ليس الذي لم يدر يشبه من درى.. وأحيانا يؤدي بنا الجهل إلى الخطأ حتى في حضرة النبي يقول الله سبحانه وتعالى: [ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ] (2،1القدر) .. إن البعض يفسر [وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ] تفسيرا خاطئا هو أن النبي ^ لا يدري والتفسير نفسه في قوله سبحانه وتعالى: [وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَآقَّةُ] (3الحاقة) أو [ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ] (17الإنفطار) إننا نقول للكريم: ما أكرمك أسلوب مدح معناه أنك سيد العارفين بالكرم إنه أسلوب استحسان وشهادة من الله بأن النبي هو الأكثر دراية بليلة القدر وبيوم الدين وبالحاقة ما أدراك هنا تعني أنك الأكثر قدرة على الدراية إن التسرع في التفسير بداية التهلكة. والدراية أو العلم درجات.. إن مساكين السفينة التي خرقها الخضر هم أهل علم يقين فقد شهدوا خرقها أما سيدنا موسى الذي عرف من خرقها فعلمه هو “عين اليقين” ويبقى سيدنا الخضر الذي عرف الحكمة من وراء خرقها علمه هو “حق اليقين” ومع ذلك كان اعتراض موسى بأدب جم في صورة سؤال: أخرقتها؟ أقتلت نفساً؟ الخ أما في إقامة الجدار لم يقل: أبنيت، أو أقمت لآن التلميذ أو المريد يتوقع من أستاذه أو شيخه الخير فلم يسأل ولا تعارض بين الدرجات نفسها من العلم لذلك سمى العلم رفعة يقول سبحانه وتعالى: [نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّنْ نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ] – 76يوسف

ولا حــول ولا قــوة إلا بـالله