القلب واللسان واليد
صوت الأمة العدد 96
30/9/2002
الكلمة الطيبة هي التي تدخل دم الناس وتبدأ في التوالد والتناسخ .. لتصبح البذرة شجرة .. والشجرة غابة .. لتصبح القطرة نهرا .. والنهر بحرا .. ليصبح الضوء نجمة.. والنجمة سربا من النجوم السابحة .. لتصبح حبة الشرارة نورا والنور غابة من أعمدة الكهرباء . لكن .. الطريق إلى جهنم مفروش أحيانا بالنوايا الطيبة .. والخير قد يولد من الشر.. والشر قد يكون قابعا وراء صورة جميلة براقة .. أو كلمة متداولة شائعة لا نملك الوقت أو القدرة للغوص في أعماق .. أعماق معانيها .. فتحسس حروف كلماتك قبل أن تنطقها .. وأمسك أفعالك قبل أن تمسك بك . إن أكثر الأوامر شيوعا في حياتنا اليومية .. الأمر بالمعروف .. لكننا لا نعرف من له الحق في توجيه هذا الأمر؟ .. فراح كل منا يفرط في هذا الأمر دون أن يعرف حدوده .. فدفعنا ثمنا غاليا .. ساءت علاقات .. وفسدت معاملات .. وسدت طرق مفتوحة .. إن مقومات الأمر أنك لا تأمر إلا من أمرك الله عليه . قال تعالى: [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا] (132طه) تماما كما في الحياة .. لا يستطيع ضابط الشرطة أن يأمر إلا جنوده .. لا أن يأمر جنود ضابط جيش .. لا يستطيع ناظر المدرسة أن يأمر إلا تلاميذه .. لا يستطيع أن يأمر تلاميذ مدرسة ناظر آخر .. لا يستطيع شخص ألا أن يأمر في بيته .. لا يستطيع أن يأمر في شارعه .. لا يكون الأمر إلا على من لك كلمة عليه .. ولا يتعدى الأمر هذه الحدود .. والأمر لو كان لك الحق فيه يكون بالمعروف .. يقول سبحانه وتعالى : [ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ] (125النحل).. والمعروف هو حضرة النبي ^ [الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ] (147 البقرة) .. والمنكر .. هو إبليس .. وهو منكر في جميع الشرائع .. والنهي عن المنكر لا يكون بالعنف .. فلم يثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن منكر باستخدام قوة .. أما إقامة الحدود بشروطها الشرعية الصارمة فهي عقوبة على فعل وليست نهيا عن فعل هذه العقوبة تكون لزجر الآخرين .. والزجر ليس تعنيفا .. الزجر هو النهي عن منكر للتعريف بحدود الله بالحكمة والموعظة الحسنة . قال ^ في الحديث الشريف
الذي ورد في صحيح مسلم – الجزء (3) ، ص (1675) :
114 – ( 2121 ) حدثنا سويد بن سعيد حدثنا حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: عن النبي ^ قال إياكم والجلوس بالطرقات قالوا يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها قال رسول الله ^ إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه؟ قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وغض البصر معناه أن المرأة لا تمشي في الطريق وكأنها في برميل وإلا ما كنا في حاجة إلى غض البصر .. والسلام ليس مجرد كلمة تقال وإنما إحساس بالطمأنينة والسكينة يشعر به الناس والأمر بالمعروف يعني النصح بالابتعاد عن المنكر .. والابتعاد عن المنكر يختلف عن تغيير المنكر .. النهي عن المنكر يشبه الطب الوقائي الذي ينصحنا بالنظافة وتطهيرنا من الميكروبات والفيروسات المسببة للأمراض .. أما في حالة وقوع المنكر .. فلا ينفع النهي عنه .. كما هو الحال بعد الإصابة بالمرض .. لا يصلح الطب الوقائي .. ويأتي دور الطب العلاجي أو الجراحي .. وهنا يكون علماء الدين نوعين : نوع يقف دوره عند النهي والنصح والزجر والتوضيح والتفهيم .. مثل خطباء المساجد .. والدعاة .. يقف دورهم عند الإصابة .. ولا يقدرون على تجاوز هذا الدور في كثير من الأحيان .. ونوع يقدر على العلاج والشفاء وتطهير القلب .. وهؤلاء هم الذين فتح الله عليهم بمدد من عنده .. هؤلاء هم ورثة الأنبياء .. قال سبحانه وتعالى: [ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] (110آل عمران) .. وورد عنه ^ في
صحيح مسلم – الجزء الأول ، ص(69)
78 – ( 49 ) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن سفيان ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة كلاهما عن لقيس بن مسلم عن طارق بن شهاب وهذا حديث أبي بكر قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال الصلاة قبل الخطبة فقال قد تُرِك ما هنالك فقال أبو سعيد أمّا هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله ^ يقول( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).إن هذا الحديث الشريف قد وجد من يستخدمه استخداما خاطئا ربما بحسن نية .. ربما بعدم تعمق في كلماته .. ولكن .. النتيجة أننا دفعنا ثمنا غاليا من القتل والذبح وترويع الآمنين .. وهو ما فعلته الجماعات المتشددة التي كلفنا ما فعلت.. مليارات من الجنيهات .وتعطيلا لبرامج التنمية وتشويها لسمعة وطن اشتهر عنه الأمن والطمأنينة . إن صيغة الأمر في الحديث الشريف موجهة إلى ” منكم ” .. إن ” منكم ” هنا تعني التخصص .. من رأى منكم سيارة مسرعة فليوقفها .. أمر لضباط المرور .. من رأى منكم مريضا فليعالجه .. أمر للأطباء .. هكذا شرط تنفيذ الأمر أن يكون الشخص قادرا على تغيير المنكر بوسائله الثلاثة اليد واللسان والقلب .. إن لم يستطع بيده فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه قلبه هو لا قلب غيره .. إذن هو يمتلك مقومات التغيير كلها .. ويندر من الناحية الفعلية أن نجد مثل هذا الشخص .. ومن ثم فإن كلمة ” منكم ” محصورة فيمن يملك تلك المقومات .. وليس كل من هب ودب . وقد درج الناس على فهم ترتيب القوة .. قوة تغيير المنكر كالتالي : اليد .. ثم اللسان .. ثم القلب.. وكأن اليد أقوى من اللسان واللسان أقوى من القلب .. وهو غير منطقي .. لا يمكن أن يكون القلب هو أضعف الإيمان كما يفهم معظم الناس ما في الحديث الشريف.
الذي ورد في مصنف ابن أبي شيبة – الجزء (15)، ص (598)
30988 – حدثنا جعفر بن سليمان قال حدثنا زكريا قال سمعت الحسن يقول إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني إنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل .. والعمل إما باليد أو باللسان .. إذن القلب هو الأقوى .. ثم إن منطقيا أن تكون وسائل تغيير المنكر متدرجة من الأضعف إلى الأقوى وليس العكس .. لو فشل الأضعف في التغيير يأتي الأقوى .. ولو فشل الأقوى يأتي الأشد قوة .. كأن تقول إنني لا أستطيع أن أحمل هذا السقف فإن لم يستطع من هو أقوى مني يأتي من هو أقوى منا نحن الاثنين.. لكن .. ما الذي جعل الناس تستسهل الترتيب الخاطئ ؟ لو عدنا إلى الحديث الشريف سنجد ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .. إن ” ذلك ” اسم إشارة يعود على البعيد لا القريب .. يعود على اليد وليس القلب .. لو كان اسم الإشارة وهذا أضعف الإيمان” لكان القلب هو الأضعف إن القلب لو كان متحصنا بالله سبحانه وتعالى وصاحب دعوى مستجابة فإنه لابد وأن يكون قويا ونافذا ومتجاوزا قوة اليد .. إن سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما كسر الأصنام بيده لم يمنع عبدتها من أن يعبدوها مرة أخرى.. أشد صلابة وأكثر زينة .. أما رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه عندما دخل الكعبة بعد فتح مكة لم يكسر الأصنام بل نزع احترامها من قلوب الناس فغير هذا المنكر بقلبه .. غير قلوب الناس نحوها فلم يعد الذين كانوا يعبدونها يحترمونها فماتت واقفة في مكانها .. إن ” أضعف الإيمان” عائد على اليد وليس القلب .. ومن ثم فليس في الحديث الشريف إحالة ولا استحالة لأن من أمروا بالتغيير لم يكلفوا فوق طاقاتهم .. كما يشير القرآن: [ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ] (286البقرة) . فالمأمورون في هذا الحديث الشريف هم القادرون على مقوماته .. اليد واللسان والقلب معا .. فلم تؤمر فئة بجزء التغيير باليد .. ولم تؤمر فئة بجزء آخر وهو التغيير باللسان .. ولم تؤمر فئة ثالثة بما تبقى .. التغيير بالقلب المأمورون مأمورون بالثلاثة .. وفي حدود الاستطاعة والقدرة ودون هدر الإمكانيات وتبديد الطاقات . إن الحكيم من يضع الشيء في نصابه وأهل الحكمة إذا أعطوها إلى غير أهلها ظلموها وإذا حجبوها عن أهلها ظلموهم .. ومن ثم لا يجوز الاستسهال في تفسير هذا الحديث الشريف وإلا هلك الناس وهلك الخير .. وهو ما حدث في سنوات العنف الذي تصور البعض أن هذا الحديث سند شرعي له فيما يفعل وما يرتكب .. فليس للعنف مجال في هذا الحديث .. لأن الذي يستخدم العنف مع قوم لا كلمة له عليهم يسبب الفتنة ويحدث الشغب ويوقع الضرر ثم إنه لم يستخدم المعروف ولم يستوعب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:
[ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللِه لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ ] (159آل عمران) .. هذه هي أخلاق النبي ^.. أحسن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقام بتغييره. لكن .. كيف يمكن تغيير المنكر بالقلب .. أقوى الإيمان؟
ولا حول ولا قوة إلا بالله
في تصنيف : لحظة نور في يوليو 14th, 2010