جريدة الفجر
العدد ( 18 )
التفسير الديمقراطى لطاعة الله والرسول
وأولى الأمر منكم !
أحياناً . . تكون بعض التفسيرات الشائعه مثل تذكرة المرور التى لا تصلح إلا لسفره واحده . . فى إتجاه واحد . . أحياناً يكون التفسير مثل عمارة لا مهندس لها . . مثل بيانو لا يجد عازفاً بارعاً يلعب عليه بأصابعه . . مثل زجاج نعتقد أن الرصاص لا يخترقه . . لكنه . . يتهشم عند التعرض لنزلة برد .
فنحن نفسر قول الله تعالى : " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " تفسيراً فى إتجاه واحد يضعنا فى بيت الطاعه ويغلق علينا الباب بالضبه والمفتاح . . تفسير تفنن به البعض , يضع طاعة الحاكم بصفته ولى الأمرمثل طاعة الله ورسوله . . وهو ما كرث الكثير من الأفكار الفرديه . . والمركزيه . . وربما الديكتاتوريه
. . وهو أمر يحتاج إلى مراجعه شامله . . كامله .
لقد وردت كلمة الأمر فى آيات كثيره بمعان غير متشابهه . . مثل . . " لله ( الأمر ) من قبل ومن بعد " . . " إليه يرجع ( الأمر ) كله " . . " وإلى الله ترجع ( الأمور ) " . . " وما كان لمؤمن ولا مؤمنه إذا قضى الله ورسوله ( أمراً ) أن يكون لهم الخيره من أمرهم " . . " كنتم خير أمه أخرجت للناس ( تأمرون) بالمعروف وتنهون عن المنكر " . . " أتى ( أمر ) الله فلا تستعجلوه " . . " و( أمركم ) شورى بينكم " . . " وغرتكم الأمانى حتى جاء ( أمر ) الله " .
وفى الحديث الشريف : " من أحدث فى ( أمرنا ) هذا ما ليس منه فهو رد " . .
" نحن معشر الأنبياء ( أمرنا ) أن نخاطب الناس على قدر عقولهم" . . وأول ما ورد عن رسول الله ما دار بينه وبين أبى طالب فى بدء الدعوه عندما قال : " والله يا عمى لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا ( الأمر ) ما تركته حتى يظهره الله أوأهلك دونه " . من هنا يتضح أن كلمة الأمر كلمه عامه . . لها أكثر من معنى . . قد تأتى بمعنى التكليف بأمر . . وقد تأتى بمعنى الدين . . و قد تأتى بمعنى الشأن . . ولا يمكن تحديد المعنى المحدد والمقصود إلا حسب السياق الذى وضعت ووجدت فيه الكلمه .
ولو عدنا إلى آيه : " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " . . فإن الذين فسروا الآيه لصالح الحكام لم يلتفتوا إلى عبارة " وأطيعوا الله " ولا لعبارة " وأطيعوا الرسول " وتمسكوا بعبارة " أولى ألأمر منكم " ثم قصروا " أولى الأمر على الحكام , رغم أن الحكام مخاطبون مثل عامة الناس فى كافة الآيات ولا تمييز بينهم وبين غيرهم من البشر العاديين .
وطاعة الله هنا عباره ملزمه يلزمها الإيمان بالغيب ومن ثم فإنها طاعة مطلقه . . وطاعة الرسول مقامها الإتباع ويلزمها التصديق المطلق . . والطاعه المطلقه أيضاً . . ونصل إلى طاعة ولى الأمر . . مثار الخلاف . . ومصدر الجدل . . فهى لا ترقى إلى رتبة العباده التى هى لله ولا تصل إلى مستوى الإتباع الذى هو لرسول الله . . فلو أخذنا كلمة " أمر " هنا بمعناها الدينى يكون المقصود بأولى الأمر فى الآيه أهل الدين ولا دخل للحكام هنا . . ولو أخذنا كلمة " أمر " بمعنى الشأن . . يكون المعنى أكثر فائده على إعتبار أن كلمة شأن تعنى أمراً . . وأولى الأمر يقصد بهم أصحاب الشأن . . وأصحاب الشأن هم أهل الخبره والإختصاص و التمييز . . كل على قدر ما يسر الله له .
إننا لو فسرنا أولى الأمر هنا بمعنى أنهم أهل الدين الإسلامى فسوف نقع فى حيره شديده بخصوص المسلمين الذين يقيمون فى بلاد يكون حكامها غير مسلمين . . هل يطيعونهم أم لا ؟ .
الواقع أن كلمة أمر بمعنى شأن هى أوسع وأفيد وأوقع هنا على إعتبار إنها تشمل جميع المفاهيم . . والتخصصات . . بمعنى أن الخبراء فى المرور مثلاً هم أولو هذا الأمر ( المرور ) وطاعتهم فيها السلامه والحفاظ على الأرواح والأموال والإنتاج و تحقيق الراحه النفسيه والعصبيه بغض النظر عن ديانتهم وجنسيتهم . . يجب طاعتهم فى تخصصهم فهم أولو أمر . . أولو الشأن . . أولو الخبره . . ويمكن تكرار المثل فى كافة مجالات الحياه . . الأطباء أولو أمر فى الصحه والمرض . . القضاه و المحامون أولو أمر فى القضايا والمحاكم . . ضباط الشرطه أولو أمر فى الأمن والحمايه . . وهكذا .
أولو الأمر بإختصار هم أهل الإختصاص . . وبهذا المفهوم نجد أن كل واحد منا فى المجتمع يكون مرة من أولى الأمر ومرة يكون مطالباً بطاعة أولى الأمر . . حسب الخبره . . فلو كنت موظفاً فى بنك فإنك من أولى الأمر الذين يطيعهم عملاء البنك
. . فإذا ما خرجت من البنك أطعت أولى الأمر فى المرور . . وأولو الأمر فى المرور بعيداً عن تخصصهم . . يطيعون الكناس فى النظافه . . ويطيعون الفلاح فى الزراعه . . وهكذا تتسع الدائره لتشمل كل البشر . . وكل الناس .
إذن كل فرد فى المجتمع أصبح من أولى الأمر . . يطيع مره ويطاع أكثر من مره
. . بما فى ذلك الحكام . . فالحكام يستمعون إلى مستشاريهم من أهل الخبره فى كل الأمور ويطيعونهم أيضاً . . وهذا لا يقلل ولا يقدح فى كون الحاكم من أولى الأمر
. . بل على العكس يزيد من قدرته وكفاء ته . . فكلما سمع الحاكم كلام أهل الخبره كلما كان حاكماً جيداً . . والعكس صحيح . . لو لم يسمع كلام أولى الأمر من أهل الخبره تعرض حكمه للسقوط والأنهيار . . تخيل حاكماً يطلب حفر نفق تحت الماء من المغرب إلى أمريكا ويصر على طلبه مهما عارضه أولى الأمر أوأصحاب الشأن من أهل الخبره . . ترى كيف يكون الحال لو أصر على رأيه ورفض رأيهم ؟ .
وطاعة ولى الأمر بهذا المعنى تعنى الإلتزام والنظام والإحترام والإحساس بالمسئوليه وتقدير الأمور تقديراً صحيحاً . . لو جرى ذلك وأحترمت الإختصاصات والقدرات وعرفنا لأهل الخبره قدرهم فى كل المجالات صغيره وكبيره فإن الدنيا تستقيم وتنمو وتزدهر وتصبح ملونه وتتجاوز عصر الأبيض والأسود . . تخيلوا مجتمعاً يعيش هذا المفهوم . . كل فرد فيه مطالب بطاعة أولى الأمر من التخصصات الأخرى . . بما فى ذلك تخصصه . . إنه سيكون المجتمع المثالى . . المدينه الفاضله التى حلم بها الأنبياء والفلاسفه . . حتى يكتمل الشرح والتفسير والإجتهاد فإننا نضرب مثلاً للتفرقه بين طاعة الله والرسول وطاعة أولى الأمر . . يطالبنا الله بالصلاه . .
" وأقيموا الصلاه " . . وهو أمر يجب طاعة الله فيه طاعه مطلقه . . ويقول رسوله الكريم : " صلوا كما رأيتمونى أصلى " . . وهنا يكون الإتباع . . إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو طاعه عمياء . . ليأتى بعد ذلك دور أولى الأمر . . إنهم لا يفرضون الصلاه ولا يفرضون كيفيتها بل يحددون توقيتاتها . . فعلماء الفلك والتقويم يحسبون لنا متى يكون الظهر ؟ . . ومتى يبدأ العصر ؟ . . والصوم هو عين الشىء نفسه . . أمر إلهى يجب طاعته لكن . . أولى الأمر مثل المفتى وعلماء الفلك وجماعة الرؤيه هم الذين يحددون متى يبدأ شهر رمضان ومتى ينتهى ؟ .
إن الإسلام دين يحفز على الشورى والحريه والديمقراطيه لكن . . الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً هم الذين يضيقون الرحمه ويروجون للأفكار الخاطئه التى شوهت الدين وجعلت أعداؤه ينسبون إليه ما ليس فيه . . ولا حول ولا قوة إلا بالله .